الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جمع الوسائل في شرح الشمائل
.باب مَا جَاءَ فِي فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْفِرَاشُ بِكَسْرِ الْفَاءِ مَا يَبْسُطُ الرَّجُلُ تَحْتَهُ، وَيُجْمَعُ عَلَى فُرُشٍ بِضَمَّتَيْنِ، فَهُوَ فَعَّالٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولُ كَاللِّبَاسِ وَنَحْوِهِ مِمَّا هُوَ شَائِعٌ (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) بِضَمِّ مِيمٍ، وَكَسْرِ هَاءٍ (عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ) وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْهَا الشَّيْخَانِ (قَالَتْ: إِنَّمَا كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ) أَيْ: فِي بَيْتِهَا أَوْ مُطْلَقًا، وَلَمَّا كَانَ الْفِرَاشُ لِلْجُلُوسِ أَيْضًا قَيَّدَتْ بِمَا يَنَامُ عَلَيْهِ، وَلِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ لَهُمَا وَقَوْلُهُ (مِنْ أَدَمٍ) بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ أَدِيمٍ، وَهُوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ أَوِ الْأَحْمَرُ أَوْ مُطْلَقُ الْجِلْدِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَدَمًا بِالنَّصْبِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَدَمٌ بِالرَّفْعِ قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَوَجْهُهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَوَجَّهَهُ الْعِصَامُ بِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُوَ أَدَمٌ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْفِرَاشِ، وَكَانَ تَامَّةٌ انْتَهَى.وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي كَانَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَجُمْلَةُ فِرَاشُهُ أَدَمٌ بَيَانٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَدَمٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ وَقَوْلُهُ (حَشْوُهُ) أَيْ: مَحْشُوُّهُ وَالضَّمِيرُ لِلْفِرَاشِ (لِيفٌ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: مِنْ لِيفِ النَّخْلِ؛ لِأَنَّهُ الْكَثِيرُ بَلِ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الضَّمِيرُ لِلْأَدَمِ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ جَمْعًا، فَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْأَدَمِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَجَعَلَهَا حَالِيَّةً مِنْ فِرَاشٍ انْتَهَى. وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قِيلَ أَرَادَ ذِكْرَ خُشُونَةِ فِرَاشِهِ لِيُقْتَدَى بِهِ، وَهَاهُنَا دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَرْ هَذَا الْفِرَاشَ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا نَامَ فِيهِ رِعَايَةً لِزَوْجَتِهِ، وَإِلَّا فَالْغَالِبُ أَنْ يَنَامَ عَلَى التُّرَابِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى عَلِيًّا نَامَ عَلَى التُّرَابِ مَدَحَهُ بِأَنْ كَنَّاهُ بِأَبِي تُرَابٍ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْتِصَاقِ التُّرَابِ بِبَدَنِهِ، فَإِنَّ الْأُبُوَّةَ تَقْتَضِي التَّرْبِيَةَ، فَسَمَّاهُ بِعَمَلِهِ، وَنَادَاهُ بِأَبِي التُّرَابِ يَعْنِي أَنَّ الْأَرْضَ فِي حِيطَةِ تَرْبِيَةِ وُجُودِكَ إِيَّاهُ بِرِيَاضَةٍ اخْتَرْتَهَا، وَقَبُولٍ حَصَلَ لَكَ مِنْ رَبِّكَ انْتَهَى. بِلَفْظَةِ وَأَنْتَ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْمُعَقَّدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى مُجَرَّدِ الْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ الْحَقِيقِ بِأَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ نُخَالَةٌ لَا دَقِيقَ مِنْ وَرَاءِ التَّأَمُّلِ كَيْفَ، وَقَوْلُهُ: الْغَالِبُ أَنْ يَنَامَ عَلَى التُّرَابِ لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَا وَارِدَ يُعَضِّدُهُ بَلِ الْمَعْلُومُ مِنْ حَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا سَأَذْكُرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَنَمْ إِلَّا عَلَى شَيْءٍ حَصِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ، وَيَشْهَدُ إِلَخْ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ إِذْ لَا شَاهِدَ فِي تَكْنِيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ بِأَبِي تُرَابٍ عَلَى زَعْمِهِ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنَامُ عَلَى التُّرَابِ، وَقَوْلُهُ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ إِلَخْ مَمْنُوعٌ بَلْ هَذَا هُوَ الْحَامِلُ عَلَى التَّكْنِيَةِ كَمَا يَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ، وَيَقُولُ لَهُ قُمْ يَا أَبَا تُرَابٍ فَمَا كَنَّاهُ بِذَلِكَ إِلَّا حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا نَامَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَاطِمَةَ شَيْءٌ فَذَهَبَ غَضْبَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَنَامَ عَلَى تُرَابِهِ فَجَاءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَأَخْبَرَتْهُ فَجَاءَ إِلَيْهِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا، وَقَدْ أَعْلَاهُ الْغُبَارُ فَصَارَ، يَنْفُضُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ قُمْ يَا أَبَا تُرَابٍ، وَيَكْفِي مُسَوِّغًا لِكُنْيَتِهِ هَذِهِ الْحَالَةُ الَّتِي رَآهُ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ فَسَمَّاهُ بِعَمَلِهِ إِلَخْ كَلَامٌ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ لَا يَرْضَى بِنِسْبَتِهِ إِلَيْهِ إِلَّا عَدِيمُ التَّمْيِيزِ فَكَيْفَ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ بَلَغَ رُتْبَةً عَلِيَّةً مِنَ الْعِلْمِ لَمْ يَبْلُغْهَا غَيْرُهُ نَعَمْ بَلَغَهَا فِي الْفَلْسَفَةِ وَعُلُومِ الْأَوَائِلِ الَّتِي لَا تُزِيدُ إِلَّا ضَلَالًا وَبَوَارًا. انْتَهَى كَلَامُهُ وَظَهَرَ مَرَامُهُ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الْقِيلِ، وَهُوَ الْعِصَامُ الْجَلِيلُ بِمَا صَدَرَ عَنْهُ، وَمَا ظَهَرَ مِنْهُ لَا يَسْتَحِقُّ ضَلَالَةً، وَلَا يَسْتَوْجِبُ جَهَالَةً مَعَ أَنَّ مَرْتَبَتَهُ فِي الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى أَرْبَابِ الْكَمَالَاتِ الْأَدَبِيَّةِ، وَكَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّقَائِقِ التَّفْسِيرِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّةِ مِمَّا كَانَ يُعْجِزُ عَنْ فَهْمِ كَلَامِهِ الْمُعْتَرِضِ فِي بَيَانِ مَرَامِهِ، وَالَّذِي لَاحَ لِي فِي مَعْنَاهُ عَلَى مَا قَصَدَهُ فِي مَبْنَاهُ أَنَّ مُرَادَ الْعِصَامِ لَيْسَ إِثْبَاتُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَنَامُ عَلَى التُّرَابِ بَلْ غَرَضُهُ أَنَّهُ مَا كَانَ يَخْتَارُ الْفِرَاشَ رِعَايَةً لِحَظِّ نَفْسِهِ بَلْ مُرَاعَاةً لِلْغَيْرِ مِنَ الزَّوْجَةِ، وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنِ الْأُمَّةِ، وَإِلَّا فَغَالِبُ الظَّنِّ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ النَّومَ عَلَى الثَّرَى مُخَالَفَةً لِلْهَوَى، وَزُهْدًا فِي الدُّنْيَا، وَتَوَاضُعًا لِلْمَوْلَى، وَتَذَكُّرًا لِمَقَامِ الْبِلَى، وَلِذَا أَعْجَبَهُ صُنْعَ الْمُرْتَضِي، وَكَنَّاهُ بِهِ مَدْحًا لِحَالِهِ، وَحُسْنِ فَعَالِهِ، وَلِذَا كَانَ يُعْجِبُ عَلِيًّا هَذِهِ التَّكْنِيَةُ أَحْسَنَ مِنْ أَبِي الْحَسَنِ ثُمَّ قَوْلُ الْعِصَامِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ إِلَخْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ سَبَبُ التَّكْنِيَةِ مُجَرَّدَ إِلْصَاقِ التُّرَابِ بِبَدَنِهِ الْمُبَارَكِ بَلِ الْمُوجِبُ لَهَا إِذْلَالُ النَّفْسِ عَنْ إِعْجَابِهَا، وَغُرُورِهَا وَحِجَابِهَا وَرَدِّهَا إِلَى أَصْلِهَا حَيَاةً وَفَضْلِهَا مَمَاتًا، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ، فَلِذَا رَفَعَهُ سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَأَخَذَهُ بِيَدِهِ وَنَفَّضَ عَنْهُ التُّرَابَ، وَلَقَّبَهُ وَكَنَّاهُ بِهِ تَذْكِرَةً لِلْحَالَةِ الْحَسَنَةِ وَالْخَصْلَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَايَةٍ مِنَ التَّحْقِيقِ، وَنِهَايَةٍ مِنَ التَّدْقِيقِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ دُونَ الْمُتَعَسِّفِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَقَامَ، وَيَزِيدُ الْوُضُوحَ فِي الْمَرَامِ بَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ الْأَعْلَامُ. مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ كَانَ ضِجَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَمًا حَشْوُهُ لِيفٌ، وَالضِّجَاعُ بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا جِيمٌ مَا يُرْقَدُ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا مَا فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَدَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ مُرَقَّعَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ. وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ فَرَأَتْ فِرَاشَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبَاءَةً مَثْنِيَّةً فَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِفِرَاشٍ حَشْوُهُ صُوفٌ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآهُ فَقَالَ: رُدِّيهِ يَا عَائِشَةُ وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُ أَجْرَى اللَّهُ مَعِي جِبَالَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَرَأَتْ فِرَاشَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبَاءَةً مَثْنِيَّةً فَانْطَلَقَتْ، وَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِفِرَاشٍ فِيهِ صُوفٌ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا هَذَا قُلْتُ أَنَّ فُلَانَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ دَخَلَتْ عَلَيَّ فَرَأَتْ فِرَاشَكَ فَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِهَذَا، فَقَالَ: رُدِّيهِ فَأَبَيْتُ فَلَمْ أَرُدَّهُ وَأَعْجَبَنِي أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِي قَالَتْ: حَتَّى قَالَ لِي ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ: رُدِّيهِ يَا عَائِشَةُ، فَوَاللَّهِ لَوْ شِئْتُ لَأَجْرَى اللَّهُ لِي جِبَالَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، قَالَتْ: فَرَدَدْتُهُ. وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ اضْطَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ فَأَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقِيلَ لَهُ أَلَا نَأْتِيَكَ بِشَيْءٍ يَقِيكَ مِنْهُ فَقَالَ: مَا لِي وَالدُّنْيَا إِنَّمَا أَنَا وَالدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ لَفْظَهُ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تُؤْذِنُنَا نَبْسُطُ تَحْتَكَ أَلْيَنَ مِنْهُ فَقَالَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَقَالَ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا». وَمِنْهَا مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْرُبَةٍ أَيْ: غُرْفَةٍ وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا أَيْ مَا يُدْبَغُ وَعِنْدَ رَأْسِهِ أُهُبٌ مُعَلَّقَةٌ أَيْ: جُلُودٌ فَبَكَيْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمَا الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ الْأَخِيرَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُولَئِكَ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ»، وَهِيَ وَسِيلَةُ الِانْقِطَاعِ، وَإِنَّا قَوْمٌ أُخِّرَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي آخِرَتِنَا، وَفِي رِوَايَةٍ بِزِيَادَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِزَارٌ، وَأَنَّهُ كَانَ مُضَطِّجِعًا عَلَى خَصَفَةٍ، وَأَنَّ بَعْضَهُ لَعَلَى التُّرَابِ وَلَمْ يَكُنْ بِهَا غَيْرُ خَصَفَةٍ، وَوِسَادَةٍ مِنْ لِيفٍ، وَنَحْوَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُرْفَةٍ كَأَنَّهَا بَيْتُ حَمَامٍ، وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى حَصِيرٍ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَبَكَى، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كِسْرَى، وَقَيْصَرَ يَنَامُونَ عَلَى الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، وَأَنْتَ نَائِمٌ عَلَى هَذَا الْحَصِيرِ قَدْ أَثَّرَ بِجَنْبِكَ، فَقَالَ: لَا تَبْكِ، فَإِنَّ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- دَخَلَا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ نَائِمٌ عَلَى سَرِيرٍ لَهُ مُزَمَّلٍ بِالْبَرْدِيِّ، وَهُوَ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ عَلَيْهِ كِسَاءٌ أَسْوَدُ حَشْوُهُ بِالْبَرْدِيِّ فَلَمَّا رَآهُمَا اسْتَوَى جَالِسًا فَنَظَرَاهُ فَإِذَا أَثَرُ السَّرِيرِ فِي جَنْبِهِ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُؤْذِيكَ خُشُونَةُ مَا نَرَى فِي فِرَاشِكَ وَسَرِيرِكَ، وَهَذَا كِسْرَى وَقَيْصَرُ عَلَى فِرَاشِ الْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَقُولَا هَذَا، فَإِنَّ فِرَاشَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِي النَّارِ، وَإِنَّ فِرَاشِيَ، وَسَرِيرِيَ هَذَا عَاقِبَتُهُ إِلَى الْجَنَّةِ ثُمَّ رَأَيْتُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعُرْيَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ، وَيَنَامُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، الْحَدِيثَ، فَهَذَا أَصْلٌ أَصِيلٌ لِلْعِصَامِ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ فِي مَقَامِ الْمَرَامِ. (حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْمُونَ قَالَ: أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أَيِ: الصَّادِقُ ابْنُ الْبَاقِرِ (عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ) قَالَ مِيرَكُ: فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ انْقِطَاعٌ لِأَنَّ الْبَاقِرَ لَمْ يَلْقَ عَائِشَةَ، وَلَا حَفْصَةَ فَإِنَّ وِلَادَتَهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَمَاتَتْ عَائِشَةُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَمَاتَتْ حَفْصَةُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ انْتَهَى. وَقَدْ حَقَّقَ ابْنُ الْهُمَامِ أَنَّ الِانْقِطَاعَ مِنْ طَرِيقِ الثَّبَاتِ لَا يَضُرُّ فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَأَلَ سَائِلٌ عَائِشَةَ (مَا كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِكِ) وَلَعَلَّ وَجْهُ التَّخْصِيصِ أَنَّ بَيْتَهَا كَانَ أَعَزَّ الْبُيُوتِ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَعْدَهَا حَفْصَةُ لِمَكَانِ أَبَوَيْهِمَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ بَقِيَّةِ كِمَالَاتِهِمَا (قَالَتْ: مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهُ لِيفٌ) وَفِي نُسْخَةٍ أَدَمٌ بِالرَّفْعِ بِدُونِ كَلِمَةِ مِنْ ثُمَّ قِيلَ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ لَا لِأَدَمٍ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صِفَةٌ لِأَدَمٍ لَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْفِرَاشُ مَصْنُوعًا مِنْ أَدَمٍ حَشْوُ ذَلِكَ الْأَدَمِ لِيفٌ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَدَمِ قَبْلَ الصُّنْعِ حَشْوٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَمَا صُنِعَ فِرَاشًا انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنُ الْمَبْنَى، وَمُسْتَحْسَنُ الْمَعْنَى، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ: فِيهِ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ لَاقْتَضَى إِلَى آخِرِهِ فِي هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ الَّتِي زَعَمَهَا نَظَرٌ بَلْ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ اسْمٌ لِمَا يُفْرَشُ، وَهُوَ يَكُونُ تَارَةً أَدَمًا، وَتَارَةً غَيْرَهُ، وَإِذَا كَانَ أَدَمًا فَتَارَةً يَكُونُ مَحْشُوًّا، وَتَارَةً يَكُونُ بِلَا حَشْوٍ فَبَيَّنَتْ بِقَوْلِهَا حَشْوُهُ لِيفٌ أَنَّهُ أَدَمٌ مَحْشُوٌّ لَا خَالٍ عَنِ الْحَشْوِ، فَانْدَفَعَ قَوْلُهُ، وَظَاهِرُ إِلَى آخِرِهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُ عَلَى كَوْنِهِ صِفَةً لِأَدَمٍ مَحْذُورٌ أَصْلًا انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُلَازَمَةَ عَقْلِيَّةٌ قَطْعِيَّةٌ بَلْ بَدِيهِيَّةٌ، فَإِنْكَارُهُ حَشْوٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمُصَادَرَةِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْمُكَابَرَةِ، وَالْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ سَابِقًا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ الْأَدَمُ اسْمَ جَمْعٍ، وَحَيْثُ أَنَّهُ جَمْعٌ فَلَا مُطَابَقَةَ بَيْنَ الضَّمِيرِ وَالْمَرْجِعِ لَا لَفْظًا، وَلَا مَعْنَى (وَسُئِلَتْ حَفْصَةُ) يَعْنِي أَيْضًا (مَا كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِكَ قَالَتْ: مِسْحًا) أَيْ: كَانَ مِسْحًا، وَهُوَ بِكَسْرِ مِيمٍ فَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ أَيْ: فِرَاشًا خَشِنًا مِنْ صُوفٍ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْبِلَاسِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِسْحٌ بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ هُوَ هُوَ أَوْ فِرَاشُهُ مِسْحٌ (ثَنَيْتُهُ) رُوِيَ مِنَ الثَّنْيِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ يُقَالُ ثَنَاهُ عَطَفَهُ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَقَوْلُهُ (ثِنْيَتَيْنِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: طَاقَتَيْنِ، وَالْمَعْنَى نَعْطِفُهُ عَطْفَ ثِنْيَيْنِ أَيْ عَطْفًا يَحْصُلُ مِنْهُ طَاقَانِ فَالتَّاءُ لِلْوَحْدَةِ لَا لِلتَّأْنِيثِ وَيُؤَيْدِهِ مَا فِي نُسْخَةِ ثِنْتَيْنِ بِدُونِ تَاءِ الْوَحْدَةِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ قَائِمٌ مُقَامَ الْمُضَافِ الَّذِي هُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ كَذَا حَقَّقَهُ الْعِصَامُ. وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: وَرُوِيَ مِنَ التَّثْنِيَةِ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الرِّوَايَةُ الْأُولَى لِقَوْلِهِ ثِنْتَيْنِ، وَلِأَنَّ التَّثْنِيَةَ عَلَى مَا فِي التَّاجِ جَعْلُ الشَّيْءِ ثَانِيًا، وَهُوَ لَا يُلَائِمُ هَذَا الْمَقَامَ انْتَهَى. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِجَعْلِ الشَّيْءِ ثَانِيًا أَنْ يَقَعَ الْقَطْعُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ هُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ قَالَ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ثِنْتَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ صِفَةَ مَفْعُولٍ مُطْلَقٍ، وَعَلَى الْأَوَّلِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ (فَيَنَامُ عَلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ ذَاتُ لَيْلَةٍ) بِالرَّفْعِ أَيْ: تَحَقُّقُ لَيْلَةٍ فَكَلِمَةُ كَانَ تَامَّةٌ، وَقَدْ يُرْوَى بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَحِينَئِذٍ ضَمِيرُ كَانَ رَاجِعٌ إِلَى الْوَقْتِ، وَالزَّمَانِ، وَذَاتُ مُقْحَمَةٍ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَوِ الْمُرَادُ بِهَا سَاعَاتُ لَيْلَةٍ (قُلْتُ) أَيْ: فِي نَفْسِي أَوْ لِبَعْضِ خَدَمِي (لَوْ ثَنَيْتُهُ) أَيْ: عَطَفْتُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَهُوَ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْوَاحِدِ مِنَ الثَّنْيِ عَلَى حَدِّ ضَرْبِ (أَرْبَعُ ثِنْيَاتٍ) بِكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ: طَاقَاتٌ لَا طَفَقَاتٍ، وَإِنِ اقْتَضَاهُ كَوْنُهُ مَفْعُولًا مُطْلَقًا، وَفِي رِوَايَةٍ بِأَرْبَعِ ثِنْيَاتٍ، وَلَعَلَّ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ: أَوْ ثَنَيْتُهُ ثَنْيًا مُلَابِسًا بِأَرْبَعِ ثِنْيَاتٍ مِنْ قَبِيلِ مُلَابَسَةِ الْعَامِّ لِلْخَاصِّ بِأَنْ يَتَحَقَّقَ فِي ضِمْنِهِ(كَانَ) أَيْ: لَكَانَ فِرَاشُهُ حِينَئِذٍ (أَوْطَأَ لَهُ) أَيْ: أَلْيَنَ مِنْ وَطِئَ يُوطِئُ إِذَا لَانَ مِنْ بَابِ حَسِنَ يُحْسِنُ، وَيُقَالُ وَطَّأَ الْمَوْضِعَ يُوطَأُ وَطْأَةً أَيْ: صَارَ وَطْئًا أَيْ: لَيِّنًا وَكَأَنَّهُ وَطِئَ حَتَّى لَانَ (فَثَنَيْنَاهُ) أَيْ: لَهُ كَمَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَقَدْ رُوِيَ هُنَا بِالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الثَّنْيِ، وَبِالتَّشْدِيدِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّثْنِيَةِ (بِأَرْبَعِ ثِنْيَاتٍ) بِالْيَاءِ لَا غَيْرَ هُنَا، وَفِيمَا سَيَأْتِي (فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: مَا فَرَشْتُمْ لِيَ اللَّيْلَةَ) أَيِ: الْبَارِحَةَ أَيْ: أَيُّ فِرَاشٍ فَرَشْتُمْ لِي، وَصِيغَةُ الْمُذَكَّرِ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لِتَغْلِيبِ بَعْضِ الْخَدَمِ، وَلَعَلَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ نُعُومَتَهُ وَلِينَتَهُ ظَنَّ أَنَّهُ غَيْرُ فِرَاشِهِ الْمَعْهُودِ أَوْ نَزَلَهُ مَنْزِلَةَ غَيْرِهِ (قَالَتْ: قُلْنَا هُوَ فِرَاشُكَ) أَيِ: الْمَعْهُودُ بِعَيْنِهِ (إِلَّا أَنَّا ثَنَيْنَاهُ بِأَرْبَعِ ثِنْيَاتٍ قُلْنَا) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ مُتَضَمِّنٍ لِتَعْلِيلٍ وَبُرْهَانٍ (هُوَ) أَيْ: كَوْنُهُ مَثْنِيًّا بِأَرْبَعِ طَيَّاتٍ (أَوْطَأُ لَكَ) أَيْ: أَوْفَقُ لَكَ، وَأَرْفَقُ لِبَدَنِكَ (قَالَ: رُدُّوهُ) أَيْ: فِرَاشِيَ (لِحَالِهِ الْأُولَى) أَيْ: مِنَ الثِّنْيَيْنِ (; فَإِنَّهُ) أَيْ: بِاعْتِبَارِ حَالَتِهِ الثَّانِيَةِ (مَنَعَتْنِي) وَفِي نُسْخَةٍ مَنَعَنِي (وَطْأَتُهُ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَهَمْزٍ أَيْ: لِينَتُهُ (صَلَاتِي اللَّيْلَةَ) أَيِ: التَّهَجُّدُ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّوْمَ عَلَى الْفِرَاشِ الْمَحْشُوِّ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَدَمٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْأَدَمِ، وَاللِّيفِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَتْ شَرْطًا بَلْ؛ لِأَنَّهَا الْمَأْلُوفَةُ عِنْدَهُمْ فَلَحِقَ بِهَا كُلُّ مَأْلُوفٍ عِنْدَهُمْ نَعَمِ الْأَوْلَى لِمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْكَسَلُ، وَمَالَتْ نَفْسُهُ إِلَى الدَّعَةِ، وَالتَّرَفَةِ أَنْ لَا يُبَالِغَ فِي حَشْوِ الْفِرَاشِ، وَلِينِهِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ فِي كَثْرَةِ النَّوْمِ، وَالْغَفْلَةِ وَالتَّثَاقُلِ عَنِ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، هَذَا وَقَدْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِرَاشٌ لِلرَّجُلِ، وَفِرَاشٌ لِلْمَرْأَةِ وَفِرَاشٌ لِلضَّيْفِ، وَفَرَّاشٌ لِلشَّيْطَانِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا أَضَافَهُ لِلشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ يُضَافُ إِلَيْهِ كُلُّ مَذْمُومٍ، وَمَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ، فَهُوَ مَشْئُومٌ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُتَّخَذُ لِلْخُيَلَاءِ وَالْمُبَاهَاتِ، وَقِيلَ أُضِيفَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُحْتَجْ إِلَيْهِ كَانَ عَلَيْهِ مَبِيتُهُ، وَمَقِيلُهُ ثُمَّ تَعْدَادُ الْفِرَاشِ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ لَا يُنَافِي أَنَّ السُّنَّةَ بَيَاتُهُ مَعَهَا فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَحْتَاجَانِ إِلَى ذَلِكَ بِمَرَضٍ، وَنَحْوِهِ. .باب مَا جَاءَ فِي تَوَاضُعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّوَاضُعُ هُوَ التَّذَلُّلُ، وَيُقَالُ وَضُعَ الرَّجُلُ يُوضَعُ صَارَ وَضِيعًا وَوَضَعَ مِنْهُ فُلَانٌ أَيْ: حَطَّ مِنْ دَرَجَتِهِ وَضَعْضَعَهُ الدَّهْرُ فَتَضَعْضَعَ أَيْ: خَضَعَ وَذَلَّ كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَقَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: التَّوَاضُعُ بِضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ الضِّعَةِ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَهِيَ الْهَوَانُ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّوَاضُعِ إِظْهَارُ النُّزُلُ عَنِ الْمَرْتَبَةِ يُرَادُ تَعْظِيمُهُ، وَقِيلَ هُوَ تَعْظِيمُ مَنْ فَوْقَهُ لِفَضْلِهِ انْتَهَى.وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: اعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَبْلُغُ حَقِيقَةَ التَّوَاضُعِ وَهُوَ التَّذَلُّلُ وَالتَّخَشُّعُ إِلَّا إِذَا دَامَ تَجَلِّي نُورِ الشُّهُودِ فِي قَلْبِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُذِيبُ النَّفْسَ، وَيَصِفُهَا عَنْ غِشِّ الْكِبْرِ وَالْعَجَبِ فَتَلِينُ، وَتَطْمَئِنُّ لِلْحَقِّ وَالْخُلُقِ بِمَحْوِ آثَارِهَا وَسُكُونِ وَهَجِهَا، وَنِسْيَانِ حَقِّهَا، وَالذُّهُولِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى قَدْرِهَا، وَلَمَّا كَانَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ مِنْ ذَلِكَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ تَوَاضُعًا، وَحَسْبُكَ شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَيَّرَهُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلَكَا أَوْ يَكُونُ عَبْدًا نَبِيًّا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا، وَمَنْ مِثْلُهُ لَمْ يَأْكُلْ مُتَّكِئًا بَعْدُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، وَقَالَ: أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، وَآكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَلَمْ يَقُلْ لِشَيْءٍ فَعَلَهُ خَادِمُهُ أَنَسٌ أُفٍّ قَطُّ، وَمَا ضَرَبَ أَحَدًا مِنْ عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَتَّسِعُ لَهُ الطَّوْرُ الْبَشَرِيُّ لَوْلَا التَّأْيِيدُ الْإِلَهِيُّ، وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ كَيْفَ كَانَ إِذَا خَلَا فِي بَيْتِهِ قَالَتْ: أَلْيَنُ النَّاسِ بَسَّامًا ضَحَّاكًا لَمْ يُرَ قَطُّ مَادًّا رِجْلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَعَنْهَا مَا كَانَ أَحَدٌ أَحْسَنَ خُلُقًا مِنْهُ مَا دَعَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَّا قَالَ: لَبَّيْكَ، وَكَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَغَيْرُهُ أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ صَحِبَهُ رَاكِبًا حِمَارَ أَبِيهِ فَقَالَ: لَهُ ارْكَبْ فَأَبَى فَقَالَ لَهُ إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ، وَإِمَّا أَنْ تَنْصَرِفَ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: ارْكَبْ أَمَامِي فَصَاحِبُ الدَّابَّةِ أَوْلَى بِمُقَدَّمِهَا، وَفِي مُخْتَصَرِ السِّيرَةِ لِلْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ حِمَارًا عُرْيًا إِلَى قُبَاءٍ، وَمَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أَحْمِلُكَ فَقَالَ: مَا شِئْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: ارْكَبْ فَوَثَبَ لِيَرْكَبَ فَلَمْ يَقْدِرْ فَاسْتَمْسَكَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَقَعَا جَمِيعًا ثُمَّ رَكِبَ، وَقَالَ: لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَفَعَلَ فَوَقَعَا جَمِيعًا ثُمَّ رَكِبَ، وَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا مَا رَمَيْتُكَ ثَالِثًا، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِإِصْلَاحِ شَاةٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ عَلَيَّ ذَبْحُهَا، وَقَالَ آخَرُ: عَلَيَّ سَلْخُهَا، وَقَالَ آخَرُ: عَلَيَّ طَبْخُهَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ جَمْعُ الْحَطَبِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكْفِيكَ الْعَمَلَ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ تَكْفُونِي، وَلَكِنْ أَكْرَهُ أَنْ أَتَمَيَّزَ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرَاهُ مُتَمَيِّزًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ انْتَهَى. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ الْقِصَّةَ الْأَخِيرَةَ مُخْتَصَرَةً، وَرَوَى أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي الطَّوَافِ فَانْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِهِ فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: نَاوِلْنِي أُصْلِحُهُ فَقَالَ: هَذِهِ أَثَرَةٌ، وَلَا أَحَبَّ الْأَثَرَةُ. وَهِيَ بِفَتْحِهِمَا الِاسْتِئْثَارُ، وَالِانْفِرَادُ بِالشَّيْءِ، وَفِي الشِّفَاءِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَدَمَ وَفْدَ النَّجَاشِيِّ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ نَكْفِيكَ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا لِأَصْحَابِنَا مُكَافِئِينَ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُكْرِمَهُمْ (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ: كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِي (قَالُوا: أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تُطْرُونِي) مِنَ الْإِطْرَاءِ بِمَعْنَى مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي الْمَدْحِ بِالْكَذِبِ (كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَفْرَطُوا فِي مَدْحِهِ، وَجَاوَزُوا فِي حَدِّهِ إِلَى أَنْ جَعَلُوهُ وَلَدًا لِلَّهِ تَعَالَى فَمَنَعَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصِفُوهُ بِالْبَاطِلِ، وَفِي الْعُدُولِ عَنِ الْمَسِيحِ إِلَى ابْنِ مَرْيَمَ تَبْعِيدٌ عَنِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ بَالَغُوا فِي الْمَدْحِ بِالْكَذِبِ حَتَّى جَعَلُوا مَنْ حَصَّلَ مِنْ جِنْسِ النِّسَاءِ الطَّوَامِثِ إِلَهًا، وَابْنَ إِلَهٍ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَا يَلْزَمُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ وُقُوعُهُ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا ادَّعَى فِي نَبِيِّنَا مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى فِي عِيسَى، وَإِنَّمَا سَبَبُ النَّهْيِ فِيمَا يَظْهَرُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لَمَّا اسْتَأْذَنَ فِي السُّجُودِ لَهُ عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ، وَإِرَادَةِ التَّكْرِيمِ، فَامْتَنَعَ وَنَهَاهُ، وَكَأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُبَالِغَ غَيْرُهُ بِأَخْوَفَ مِنْ ذَلِكَ فَبَادَرَ إِلَى النَّهْيِ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ فَالْمَعْنَى لَا تَتَجَاوَزُوا الْحَدَّ فِي مَدْحِي بِغَيْرِ الْوَاقِعِ فَيَجُرُّكُمْ ذَلِكَ إِلَى الْكُفْرِ كَمَا جَرَّ النَّصَارَى إِلَيْهِ لَمَّا تَعَدَّوْا عَنِ الْحَدِّ فِي مَدْحِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِغَيْرِ الْوَاقِعِ، وَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا كَمَا حَرَّفُوا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْإِنْجِيلِ عِيسَى نَبِيٌّ، وَأَنَا وَلَدْتُهُ فَجَعَلُوا الْأَوَّلَ بِتَقْدِيمِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَخَفَّفُوا اللَّامَ فِي الثَّانِي فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ، وَقَالَ: (إِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ عَبْدُ اللَّهِ، وَفِي أُخْرَى عَبْدٌ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} فَإِرْدَافُهُ النَّهْيَ بِهَذَا الْقَوْلِ لِإِرَادَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِي صِفَةٌ غَيْرَ الْعُبُودِيَّةِ، وَالرِّسَالَةِ، وَهَذَا غَايَةُ الْكَمَالِ فِي مَرْتَبَةِ الْمَخْلُوقِ، فَلَا تَقُولُوا فِي حَقِّي شَيْئًا يُنَافِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، وَلَا تَعْتَقِدُوا فِي شَأْنِي وَصْفًا غَيْرَهُمَا (فَقُولُوا عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ) وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَا عَدَا نَعْتَ الْأُلُوهِيَّةِ، وَوَصْفَ الرُّبُوبِيَّةِ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِلَى هَذِهِ الزُّبْدَةِ أَشَارَ صَاحِبُ الْبُرْدَةِ بِقَوْلِهِ: هَذَا وَقَوْلُهُ إِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ لِقَصْرِ الْقَلْبِ أَيْ: لَسْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَتِ النَّصَارَى أَوِ الْقَصْرُ فِيهِ إِضَافِيٌّ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ لَهُ أَوْصَافًا مِنَ الْكَمَالِ غَيْرُ الْعُبُودِيَّةِ، وَالرِّسَالَةُ مِنْهَا أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ ابْنِ الْفَارِضِ: وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ: أَقُولُ وَيَكْفِي فِي مَدْحِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِجْمَالًا أَنَّهُ مُحَمَّدٌ يَحْمَدُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ وَأَنَّهُ أَحْمَدُ مَنْ حَمِدَ، وَأَحْمَدُ مَنْ حُمِدَ وَلَهُ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ وَاللِّوَاءُ الْمَمْدُودُ وَالْحَوْضُ الْمَوْرُودُ، وَالشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى فِي يَوْمٍ مَشْهُودٍ. ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ بَابِ تَوَاضُعِهِ حَيْثُ اقْتَصَرَ أَمْرُهُ عَلَى مُجَرَّدِ الرِّسَالَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ نَظَرًا إِلَى كَمَالِ نُعُوتِ رَبِّهِ مِنَ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ التَّنَزُّلِ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ بَلْ مِنْ بَابِ تَعْظِيمِ مَنْ فَوْقَهُ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (سُوِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ امْرَأَةً) أَيْ: كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا (جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً) أَيْ: أُرِيدُ أَنْ أُخْفِيَهَا عَنْ غَيْرِكَ (فَقَالَ: اجْلِسِي فِي أَيِّ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ) أَيْ: فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ طَرِيقِهَا نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} أَوْ بِمَعْنَى أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ أَرَدْتِ (أَجْلِسْ) مَجْزُومٌ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ أَيْ: أَقْعُدْ أَنَا فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ مُتَوَجِّهًا (إِلَيْكِ) أَوْ مَعَكِ حَتَّى أَقْضِيَ حَاجَتَكِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ انْظُرِي أَيِّ السِّكَكِ شِئْتِ فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حِلِّ الْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ لِحَاجَةٍ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُؤْذِي أَوْ يَتَأَذَّى بِجُلُوسِهِ فِيهَا. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: نَقْلًا عَنِ الْمُهَلَّبِ لَمْ يُرِدْ أَنَسٌ أَنَّهُ خَلَا بِهَا بِحَيْثُ غَابَ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، وَإِنَّمَا خَلَا بِهَا بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ شَكْوَاهَا مَنْ حَضَرَ مَعَهَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ الْمَرْأَةِ، وَقَالَ مِيرَكُ: رَأَيْتُ فِي كَلَامِ بَعْضِ مَنْ كَتَبَ الْحَوَاشِيَ عَلَى كِتَابِ الشِّفَاءِ أَنَّ اسْمَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي طَرِيقِ مُسْلِمٍ أُمُّ زُفَرَ مَاشِطَةُ خَدِيجَةَ، وَأَظُنُّهُ سَهْوًا فَإِنَّ أُمَّ زُفَرَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَرِوَايَاتُ الْبُخَارِيِّ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهَا أَنْصَارِيَّةٌ حَتَّى وَرَدَ فِي رِوَايَاتِهِ أَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ أَوْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ زَادَ بِهَذِهِ مَرَّتَيْنِ، وَفِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ شُعْبَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمَرْأَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ غَيْرُ الْمَذْكُورَةِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لَكِنَّ الظَّاهِرَ اتِّحَادُ الْقِصَّةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الرِّوَايَاتِ هَذَا وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ أَمَةٌ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَنْطَلِقَ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ. وَلِأَحْمَدَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَتَنْطَلِقُ بِهِ فِي حَاجَتِهَا، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ إِنْ كَانَتِ الْوَلِيدَةُ مِنْ وَلَائِدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَجِئُ فَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهَا حَتَّى تَذْهَبَ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْيَدِ لَازِمُهُ وَهُوَ الرِّفْقُ وَالِانْقِيَادُ وَقَدِ اشْتَمَلَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوَاضُعِ لِذِكْرِ الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ، وَالْأَمَةِ دُونَ الْحُرَّةِ وَحَيْثُ عَمَّ بِلَفْظِ الْإِمَاءِ أَيْ: أَيَّ أَمَةٍ كَانَتْ، وَبِقَوْلِهِ حَيْثُ شَاءَتْ أَيْ: مِنَ الْأَمْكِنَةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْأَخْذِ بِالْيَدِ إِشَارَةٌ إِلَى غَايَةِ التَّصَرُّفِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ حَاجَتُهَا خَارِجَ الْمَدِينَةِ، وَالْتَمَسَتْ مِنْهُ مُسَاعَدَتَهَا فِي تِلْكَ الْحَاجَةِ لَسَاعَدَهَا عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَزِيدِ تَوَاضُعِهِ، وَبَرَاءَتِهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكِبْرِ، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ، وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِي لَهُ الْحَاجَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا صَبْرُهُ عَلَى الْمَشَقَّةِ فِي نَفْسِهِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِجَابَتُهُ مَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً، وَبُرُوزُهُ لِلنَّاسِ وَقُرْبُهُ مِنْهُمْ لِيَصِلَ إِلَيْهِ ذَوُو الْحُقُوقِ إِلَى حُقُوقِهِمْ، وَيَسْتَرْشِدَ النَّاسُ بِأَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ تَنْبِيهًا مِنْهُ لِحُكَّامِ أُمَّتِهِ، وَنَحْوِهِمْ عَلَى أَنْ يَقْتَدُوا بِهِ فِي ذَلِكَ. (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَنْبَأَنَا)، وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ مُخَفَّفًا (عَنْ مُسْلِمٍ الْأَعْوَرِ) أَيِ: الْمَشْهُورُ بِهِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُ الْمَرِيضَ) أَيْ: أَيَّ مَرِيضٍ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا شَرِيفًا أَوْ وَضِيعًا حَتَّى لَقَدْ عَادَ غُلَامًا يَهُودِيًّا كَانَ يَخْدِمُهُ، وَعَادَ عَمَّهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمَا الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ الْأَوَّلُ، وَقِصَّتُهُ فِي الْبُخَارِيِّ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْنُو مِنَ الْمَرِيضِ، وَيَجْلِسُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَيَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ، وَيَقُولُ كَيْفَ تَجِدُكَ أَوْ كَيْفَ أَصْبَحْتَ أَوْ كَيْفَ أَمْسَيْتَ أَوْ كَيْفَ هُوَ وَيَقُولُ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ كَفَارَّةٌ وَطَهُورٌ وَقَدْ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَأْلَمُ ثُمَّ يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ دَاءٍ يُؤْذِيكَ اللَّهُ يَشْفِيكَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ مَرِضْتُ فَأَتَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي، وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ فَوَجَدَانِي أُغْمِيَ عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فَنَفَخَ فِي وَجْهِي فَأَفَقْتُ، وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا جَابِرُ لَا أَرَاكَ مَيِّتًا مِنْ وَجَعِكَ هَذَا وَصَحَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ يَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ وَذَكَرَ مِنْهَا عِيَادَةَ الْمَرِيضِ، فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: بِسُنِّيَّتِهِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَصَحَّ أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَصَحَّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِعَيْنِي، وَأَمَّا حَدِيثُ: ثَلَاثَةٌ لَيْسَ فِيهَا عِيَادَةٌ الرَّمَدُ، وَالدُّمَّلُ وَالضِّرْسُ فَصَحَّحَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعُودُ مَرِيضًا إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثٍ ضَعِيفٌ بَلْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: بَاطِلٌ ثُمَّ تَرْكُ الْعِيَادَةِ يَوْمَ السَّبْتِ بِدْعَةٌ ابْتَدَعَهَا يَهُودِيٌّ أَلْزَمَهُ مَلِكٌ مَرِضَ بِمُلَازَمَتِهِ فَأَرَادَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الذَّهَابَ لِسَبْتِهِ فَمَنَعَهُ فَخَافَ اسْتِحْلَالَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْمَرِيضَ لَا يُدْخَلُ عَلَيْهِ يَوْمَ السَّبْتِ فَتَرَكَهُ الْمَلِكُ ثُمَّ أُشِيعَ ذَلِكَ، وَصَارَ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ يَظُنُّ أَنَّ لَهُ أَصْلًا وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ أَصْلًا، وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا أَنَّأَهْلَ مَكَّةَ تَرَكُوا الْعِيَادَةَ فِيهِ، وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَالْأَرْبِعَاءِ، وَالْجُمُعَةِ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} فَسَّرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَأَمَّا تَعْلِيلُهُمْ بِأَنَّهُ لِزِيَارَةِ الْمَوْتَى فَلَا وَجْهَ لَهُ بَلْ أَقُولُ الْمَرْضَى فِي حُكْمِ الْمَوْتَى فَالْقِيَاسُ فِعْلُهُ، وَمِنَ الْغَرِيبِ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنِ الْفُرَاوِيِّ أَنَّهَا تُنْدَبُ شِتَاءً لَيْلًا وَصَيْفًا نَهَارًا وَحِكْمَتُهُ تَضَرُّرُ الْمَرِيضِ بِطُولِ اللَّيْلِ شِتَاءً وَالنَّهَارِ صَيْفًا فَيَحْصُلُ لَهُ بِالْعِيَادَةِ مِنَ الِاسْتِرْوَاحِ مَا يُزِيلُ عَنْهُ تِلْكَ الْمَشَاقَّ الْكَثِيرَةَ، وَلِذَا قِيلَ لِقَاءُ الْخَلِيلِ شِفَاءُ الْعَلِيلِ، وَقَدْ جَاءَ فِي فَضِيلَةِ الْعِيَادَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَقِيلَ أَنَّ الْعِيَادَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَفِيهِ تَعْمِيَةٌ لَطِيفَةٌ خَطِّيَّةٌ وَحِسَابِيَّةٌ، وَعِيَادَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ كَوْنِهَا عِبَادَةَ تَوَاضُعٍ؛ لِأَنَّ التَّوَاضُعَ خُرُوجُ الْإِنْسَانِ عَنْ مُقْتَضَى جَاهِهِ، وَتَنَزُّلُهُ عَنْ مَرْتَبَةِ أَمْثَالِهِ (وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ) أَيْ: لِلصَّلَاةِ، وَالدَّفْنِ، وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ أَيْضًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ سُنَّةٌ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَوَاضُعِهِ أَيْضًا وَكَانَ إِذَا شَيَّعَ جِنَازَةً عَلَا كَرْبُهُ، وَأَقَلَّ الْكَلَامَ، وَأَكْثَرَ حَدِيثَ نَفْسِهِ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ (وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ) أَيْ: مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى النَّاقَةِ، وَالْفَرَسِ وَالْجَمَلِ وَرُبَّمَا كَانَ يُرْدِفُ أَحَدًا مَعَهُ (وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ) وَفِي رِوَايَةٍ الْمَمْلُوكِ أَيْ: إِلَى أَيِّ حَاجَةٍ دَعَاهُ إِلَيْهَا قَرُبَ مَحَلُّهَا أَوْ بَعُدَ كَمَا سَبَقَ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِجَابَةَ دَعْوَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ أَوْ سُمِّيَ عَبْدًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَعْتُوقُ أَوْ كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ مِنْ عِنْدِ سَيِّدِهِ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ عَنْ إِجَابَتِهِ لِعَدَمِ مَأْتَى سَيِّدِهِ بِنَفْسِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَكَابِرِ الزَّمَانِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْعُدُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ أَيْ عَلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَيَقُولُ: لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ، وَكَانَ يَعْتَقِلُ شَاتَهُ (وَكَانَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ) بِالتَّصْغِيرِ، وَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ مَعَ أَنَّهُمْ أَعْدَاؤُهُ، وَكَانَ مَحْضَرًا عَظِيمًا (عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ) أَيْ ذَا خِطَامٍ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الزِّمَامُ (بِحَبْلٍ مِنْ لِيفٍ) وَهُوَ الْخِطَامُ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ فِي طَرَفِهِ حَلْقَةً وَيَسْلُكَ فِيهَا طَرَفَهُ الْآخَرَ حَتَّى يَصِيرَ كَالْحَلْقَةِ ثُمَّ يُقَادُ بِهِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْحِمَارِ (إِكَافٌ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّرْجِ لِلْفَرَسِ وَالرَّحْلِ لِلْبَعِيرِ (مِنْ لِيفٍ) وَفِي نُسْخَةٍ إِكَافُ لِيفٍ بِالْإِضَافَةِ. (حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْعَى إِلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ وَالْإِهَالَةِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْأَدْهَانِ مِمَّا يُؤْتَدَمُ، وَقِيلَ مَا أُذِيبَ مِنَ الْأَلْيَةِ وَالشَّحْمِ، وَقِيلَ الدَّسَمُ الْجَامِدُ وَقَوْلُهُ (السَّنِخَةِ) بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ النُّونِ فَالْخَاءُ الْمُعْجَمَةُ أَيِ الْمُتَغَيِّرَةِ الرِّيحِ مِنْ طُولِ الْمُكْثِ (فَيُجِيبُهُ وَلَقَدْ كَانَتْ لَهُ دِرْعٌ) زَادَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيدٍ أَيْ مَرْهُونَةٌ فِي ثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَخَذَهُ لِأَهْلِهِ عَلَى مَا رَوَاهُ المص فِي الْجَامِعِ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَّتِهِ، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ أَخَذَ أَوَّلًا عِشْرِينَ ثُمَّ عَشَرَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقِيلَ لَعَلَّهُ كَانَ دُونَ الثَّلَاثِينَ فَجُبِرَ إِلَى الْكَسْرِ تَارَةً وَأُوفِيَ أُخْرَى، وَوَقَعَ لِابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ قِيمَةَ الطَّعَامِ كَانَتْ دِينَارًا، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنْهَا أَنَّ الْأَجَلَ سَنَةٌ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كَانَ بِدُونِ تَاءِ التَّأْنِيثِ، وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ دِرْعَ الْحَدِيدِ مُؤَنَّثٌ وَدِرْعَ الْمَرْأَةِ مُذَكَّرٌ، كَذَا حَرَّرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمُؤَنَّثُ حَقِيقِيًّا وَقَدْ تَأَخَّرَ لَاسِيَّمَا مَعَ الْفَصْلِ جَازَ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ كَمَا قُرِئَ بِهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} وَأَمَّا وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي اللُّغَةِ أَنَّ دِرْعَ الْحَدِيدِ بِمَعْنَى اللَّأْمَةِ بِالْهَمْزَةِ، وَدِرْعَ الْمَرْأَةِ بِمَعْنَى الْقَمِيصِ، مَعَ أَنَّ دِرْعَ الْحَدِيدِ قَدْ يُذَكَّرُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ (عِنْدَ يَهُودِيٍّ) هُوَ أَبُو الشَّحْمِ بْنُ الْأَرْسِ، وَاسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْقَرْضَ مِنَ الْأَبَاعِدِ أَوْلَى (فَمَا وَجَدَ مَا يَفُكُّهَا) بِضَمِّ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ أَيْ شَيْئًا يُخَلِّصُ الدِّرْعَ، (حَتَّى مَاتَ) أَيْ مِسْكِينًا كَمَا طَلَبَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، قِيلَ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِإِتْمَامِ الْحَدِيثِ لَا لِبَيَانِ التَّوَاضُعِ وُرَدَّ بِأَنَّ فِيهَا غَايَةَ التَّوَاضُعِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ سَأَلَ مَيَاسِيرَ أَصْحَابِهِ فِي رَهْنِ دِرْعِهِ لَرَهَنُوهَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، لِمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الْعَطَاءِ فِي مَرْضَاتِهِ مَا لَا يُحْصَى، فَإِذَا تَرَكَ سُؤَالَهُمْ وَسَأَلَ يَهُودِيًّا لَمْ يُبَالِ بِأَنَّ مَنْصِبَهُ الشَّرِيفَ يَأْبَى أَنْ يَسْأَلَ مِثْلَ يَهُودِيٍّ فِي ذَلِكَ، دَلَّ عَلَى غَايَةِ تَوَاضُعِهِ وَعَدَمِ نَظَرِهِ لِفَوْتِ مَرْتَبَتِهِ وَرِفْعَةِ شَأْنِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى الْيَهُودِ، حَيْثُ إِنَّهُ اخْتَارَ الْعُقْبَى وَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا مَعَ عَرْضِ الْجِبَالِ ذَهَبًا لَهُ مِنْ عِنْدِ الْمَوْلَى، وَرَدًّا عَلَى مَقَالِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} حَيْثُ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} وَمَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِبَرَاءَتِهِ مِنَ الطَّمَعِ وَطَلَبِ الْأَجْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَنَزَّهَ عَنِ الْقَرْضِ الَّذِي أَدَاؤُهُ مِنَ الْفَرْضِ، وَلِذَا تَبِعَهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ حَيْثُ لَمْ يَقِفْ فِي ظِلِّ جِدَارِ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ تَنَزُّهًا مِنْ كُلِّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا، هَذَا وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ»، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ عِنْدَ صَاحِبِ الدَّيْنِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْوَفَاءُ فَانْدَفَعَ بِهِ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُرْتَهَنَةٌ أَيْ مَحْبُوسَةٌ عَنْ مَقَامِهِ الْكَرِيمِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ» لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَى أَنَّ مَحَلَّهُ فِي مَنِ اسْتَدَانَ لِمَعْصِيَةٍ وَإِلَّا لَمْ يُطَالَبْ قِيلَ إِجْمَاعًا. انْتَهَى. وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ التَّخْصِيصَ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالٍ مِنْ غَيْرِ إِبْرَازِ اسْتِدْلَالٍ، إِذِ الْأَصْلُ عُمُومُ الْحُكْمِ، وَأَمَّا عَدَمُ الْمُطَالَبَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَمَحَلُّ بَحْثٍ، وَكَذَا مَنِ اسْتَدَانَ لِمَعْصِيَةٍ خَارِجٌ عَمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، ثُمَّ قَالَ مِيرَكُ شَاهْ: ذُكِرَ فِي الْأَقْضِيَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ افْتَكَّهَا بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَضَى دُيُونَهُ، وَرَوَى إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ افْتَكَّ الدِّرْعَ وَسَلَّمَهَا إِلَى عَلِيٍّ وَأَمَّا مَنْ أَجَابَ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَكَّهَا قَبْلَ مَوْتِهِ فَمُعَارَضٌ بِحَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ مُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ فِيمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ تَحْرِيمُ عَيْنِ الْمُتَعَامَلِ فِيهِ، وَعَدَمُ الِاعْتِبَارِ بِفَسَادِ مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ جَوَازُ مُعَامَلَةِ مَنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ يَعْنِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وَفِيهِ جَوَازُ بَيْعِ السِّلَاحِ وَرَهْنِهِ وَإِجَارَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْكَافِرِ مَا لَمْ يَكُنْ حَرْبِيًّا، وَفِيهِ ثُبُوتُ الْمَالِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أَيْدِيهِمْ وَجَوَازُ الشِّرَاءِ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ، وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوَاضُعِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالتَّقَلُّلِ فِيهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا، وَالْكَرَمِ الَّذِي أَفْضَى إِلَى عَدَمِ الِادِّخَارِ حَتَّى رَهَنَ دِرْعَهُ، وَالصَّبْرِ عَلَى ضِيقِ الْعَيْشِ، وَالْقَنَاعَةِ بِالْيَسِيرِ وَفَضِيلَتِهِ لِآلِهِ وَأَزْوَاجِهِ حَيْثُ يَصْبِرُونَ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي عُدُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُعَامَلَةِ مَيَاسِيرِ الصَّحَابَةِ إِلَى مُعَامَلَةِ الْيَهُودِ إِمَّا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ طَعَامٌ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِمْ، أَوْ خَشِيَ أَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ ثَمَنًا، أَوْ عِوَضًا فَلَمْ يُرِدِ التَّضْيِيقَ عَلَيْهِمْ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يُطْلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَنْ كَانَ يَقْدِرُ، أَوِ أَطْلَعَ عَلَيْهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُوسِرًا. (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ نِسْبَةً إِلَى مَوْضِعٍ بِالْكُوفَةِ (عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صَبِيحٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبَانٍ) بِالصَّرْفِ وَعَدَمِهِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَحْلٍ) أَيْ رَاكِبًا عَلَى قَتَبِ جَمَلٍ (رَثٍّ) بِفَتْحِ رَاءٍ وَتَشْدِيدِ مُثَلَّثَةٍ أَيْ خَلِقٍ بَالٍ (وَعَلَيْهِ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ عَلَى الرَّحْلِ لَا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَوَهَّمَهُ الْحَنَفِيُّ وَجَوَّزَهُمَا، وَقَدَّمَ الثَّانِيَ كَمَا اقْتَصَرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى الْأَخِيرِ (قَطِيفَةٌ) أَيْ كِسَاءٌ لَهُ خَمْلٌ وَهُوَ هُدْبُ الْقَطِيفَةِ، أَيِ الْخُيُوطُ بِطَرَفِهِ الْمُرْسَلَةُ مِنَ السَّدَى عَنْ غَيْرِ لُحْمَةٍ عَلَيْهَا (لَا تُسَاوِي) أَيْ لَا يَبْلُغُ مِقْدَارُ ثَمَنِهَا (أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ) أَيْ حَجِّيَ (حَجًّا لَا رِيَاءَ فِيهِ) بِالْهَمْزَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْيَاءِ وَهُوَ مِمَّا اشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ لِثِقَلِ الْهَمْزَتَيْنِ فَخُفِّفَتِ الْأُولَى لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، وَبِهِ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنَ الْعَشَرَةِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ حَمْزَةُ مِنَ السَّبْعَةِ، وَمَا نَقَلَهُ الْحَنَفِيُّ مِنَ الْمُغْرِبِ: وَرِيَاءٌ بِالْيَاءِ خَطًّا خَطَأٌ مَعَ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ قَالَ: يُقَالُ رَاءَى فُلَانٌ النَّاسَ يُرَائِيهِمْ مُرَاءَةً وَرَايَاهُمْ مُرَايَاةً عَلَى الْقَلْبِ بِمَعْنًى انْتَهَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرِّيَاءَ عَلَى الْقَلْبِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْيَاءِ فَقَطْ وَفِي الْحَدِيثِ مَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ، أَيْ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لِكَيْ يَرَاهُ النَّاسُ شَهَّرَ اللَّهُ رِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَلَا سُمْعَةَ) بِضَمِّ سِينٍ فَسُكُونِ مِيمٍ، يُقَالُ: فَعَلَ ذَلِكَ سُمْعَةً أَيْ لِيَسْمَعَهُ النَّاسُ وَيَمْدَحُوهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، أَيْ مَنْ فَعَلَهُ سُمْعَةً شَهَّرَهُ تَسْمِيعًا وَفِي النِّهَايَةِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ إِنَّمَا فَعَلَهُ سُمْعَةً وَرِيَاءً أَيْ لِيَسْمَعَهُ النَّاسُ وَيَرُدَّهُ. انْتَهَى، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ اللُّغَةِ مِنْ حَيْثُ الِاشْتِقَاقُ، وَإِنْ كَانَ يُطْلَقُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ تَغْلِيبًا، حَيْثُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ لِوَجْهِ اللَّهِ وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ وَعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا مِنْ عِظَمِ تَوَاضُعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَا يَتَطَرَّقُ الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ إِلَّا لِمَنْ حَجَّ عَلَى الْمَرَاكِبِ الْبَهِيَّةِ وَالْمَلَابِسِ السَّنِيَّةِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ ضَعْفٌ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا قَالَ مِيرَكُ شَاهْ وَضَعَّفَهُ لِأَجْلِ الرَّبِيعِ بْنِ صَبِيحٍ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ لَهُ مَنَاكِيرُ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبَانٍ أَيْضًا مَتْرُوكٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَبِهِ شَاهِدٌ ضَعِيفٌ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكَمٍ الْكِنَانِيِّ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مَوَالِيهِمْ، عَنْ بِشْرِ بْنِ قُدَامَةَ الضَّبَابِيِّ قَالَ: أَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا بِعَرَفَاتٍ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ قَصْوَاءَ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ بَوْلَانِيَّةٌ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا حَجَّةً غَيْرَ رِيَاءٍ وَلَا هَبَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ، وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ: تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَسَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ مَجْهُولٌ انْتَهَى، وَيُفْهَمُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ ضَمِيرَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، رَاجِعٌ إِلَى الرَّحْلِ لَا إِلَى الرَّسُولِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ مَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي هَذَا الْعِلْمِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا سَيَأْتِي مِنْ هَذَا الْبَابِ بِلَفْظِ: حَجَّ عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ وَقَطِيفَةٍ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى رَحْلٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: عَلَى الثَّالِثَةُ بَدَلٌ مِنَ الثَّانِيَةِ وَهِيَ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِكَافَ عَلَى الْحِمَارِ، وَالْقَطِيفَةَ فَوْقَ الْإِكَافِ، وَالرَّاكِبَ فَوْقَ الْقَطِيفَةِ انْتَهَى. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنَا عَفَّانُ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ) أَيِ ابْنِ مَالِكٍ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قَالَ لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ) أَيْ أَكْثَرَ مَحْبُوبِيَّةً (إِلَيْهِمْ) أَيْ إِلَى الصَّحَابَةِ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:) أَيْ أَنَسٌ (وَكَانُوا) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مَعَ تِلْكَ الْأَحَبِّيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِمَزِيدِ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ بِالْمَزِيَّةِ، وَمِنْهُ الْقِيَامُ عَلَى الْعَادَةِ الْعُرْفِيَّةِ، كَانُوا (إِذَا رَأَوْهُ) أَيْ مُقْبِلًا (لَمْ يَقُومُوا) أَيْ لَهُ (لِمَا يَعْلَمُونَ) مَا مَوْصُولَةٌ، أَوْ مَوْصُوفَةٌ وَأَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ فِي تَجْوِيزِهِ الْمَصْدَرِيَّةَ، أَيْ: لِأَجْلِ الْأَمْرِ الْمَعْلُومِ الْمُسْتَقِرِّ عِنْدَهُمْ (مِنْ كَرَاهِيَتِهِ) بَيَانٌ لِمَا، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ كَرَاهَتِهِ وَهُوَ مَصْدَرُ كَرِهَ كَعَلِمَ (لِذَلِكَ) أَيْ لِلْقِيَامِ تَوَاضُعًا لَهُمْ، وَرَحْمَةً عَلَيْهِمْ فَاخْتَارُوا إِرَادَتَهُ عَلَى إِرَادَتِهِمْ؛ لِعِلْمِهِمْ بِكَمَالِ تَوَاضُعِهِ وَحُسْنِ خُلُقِهِ، قِيلَ فِي قَوْلِهِ (أَحَبَّ) هَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ الْأَحَبِّيَّةَ لَا تَقْتَضِي الْقِيَامَ لِأَنَّ الْوَلَدَ أَحَبُّ إِلَى الْوَالِدِ، وَلَا يَقُومُ لَهُ، وَرُدَّ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ؛ فَإِنَّ الْوَلَدَ حَيْثُ كَانَ لَهُ فَضِيلَةٌ تَقْتَضِي الْقِيَامَ لَهُ سُنَّ لِلْأَبِ الْقِيَامُ لَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ كَلَامُ أَئِمَّةِ هَذَا الْقَائِلِ فَبَطَلَ إِشْكَالُهُ الْمَبْنِيُّ عَلَى وَهْمٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَحَبِّيَّةَ مِنْ حَيْثُ الدِّينُ تَقْتَضِي الْقِيَامَ انْتَهَى؟ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ إِشْكَالَهُ وَارِدٌ، وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ بِطَرِيقِ الرَّدِّ لَا أَنَّ الْإِشْكَالَ مُنْدَفِعٌ مِنْ أَصْلِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا كَانَتْ نَاشِئَةً عَنِ الْفَضِيلَةِ تَقْتَضِي الْقِيَامَ عَلَى وَجْهِ الْكَرَامَةِ لَا الْمَحَبَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ عَلَى مُقْتَضَى السَّجِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُحِبُّ فَرَسَهُ أَكْثَرَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ إِيرَادِ أَنَسٍ هَذَا الْحَدِيثَ إِرَادَةُ أَنَّ الْقِيَامَ الْمُتَعَارَفَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي أَصْلِ السُّنَّةِ وَفِعْلِ الصَّحَابَةِ، وَإِنِ اسْتَحَبَّهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَلَا يَقُومُونَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُتَوَهَّمُ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَا تَقُومُوا كَمَا يَقُومُ الْأَعَاجِمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ: «قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ» أَيْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ سَيِّدِ الْأَوْسِ لَمَّا جَاءَ عَلَى حِمَارٍ لِإِصَابَةِ أَكْحَلِهِ بِسَهْمٍ فِي وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ كَانَ مِنْهُ مَوْتُهُ بَعْدُ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ لِلْغَيْرِ فَأَعْطَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ وَأَمَرَهُمْ بِفِعْلِهِ بِخِلَافِ قِيَامِهِمْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ حَقٌّ لِنَفْسِهِ وَتَرَكَهُ تَوَاضُعًا انْتَهَى، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ يَرُدُّ عَلَيْهِ،؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ لَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَعَلَى التَّنَزُّلِ، فَلَوْ أَرَادَ قِيَامَ التَّعْظِيمِ لَمَا خَصَّ قَوْمَهُ بِهِ، بَلْ كَانَ يَعُمُّهُمْ وَغَيْرَهُمْ، فَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَامِ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ هُوَ إِعَانَتُهُ حَتَّى يَنْزِلَ مِنْ حِمَارِهِ لِكَوْنِهِ مَجْرُوحًا مَرِيضًا، وَلَا يَدْفَعُهُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى لَعَدَّى بِـ (إِلَى) لِأَنَّ اللَّامَ تَأْتِي كَثِيرًا لِلْعِلَّةِ، فَالتَّقْدِيرُ: قُومُوا لِأَجْلِ مُعَاوَنَةِ سَيِّدِكُمْ، مَعَ أَنَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أُرِيدَ بِهِ التَّوْقِيرُ لَقَالَ: قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَيُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا مَنْ نَدَبَ الْقِيَامَ لِكُلِّ قَادِمٍ بِهِ فَضِيلَةٌ، نَحْوَ نَسَبٍ، أَوْ عِلْمٍ، أَوْ صَلَاحٍ، أَوْ صَدَاقَةِ حَدِيثٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ وَلِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ، وَضَعْفُهُمَا لَا يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِمَا هُنَا خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ اتِّفَاقًا بَلْ إِجْمَاعًا كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فَمَدْفُوعٌ؛ لِأَنَّ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَكِنْ لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إِثْبَاتِ الْخَصْلَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ عَلَى أَنَّ الْقَادِمَ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ فَهُوَ خَارِجٌ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ، مَعَ أَنَّ الْمَرْوِيَّ بِطَرِيقِ الضَّعْفِ عَنْ عَدِيٍّ (مَا دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَامَ لِي أَوْ تَحَرَّكَ) وَالْمَشْهُورُ إِلَّا أَوْسَعَ لِي، وَلَوْ ثَبَتَ فَالْوَجْهُ فِيهِ: أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّرْخِيصِ حَيْثُ يَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَقَدْ كَانَ عَدِيٌّ سَيِّدَ بَنِي طَيٍّ عَلَى حَسَبِهِ فَرَأَى تَأْلِيفَهُ بِذَلِكَ. عَلَى الْإِسْلَامِ لَمَّا عَرَفَ مِنْ جَانِبِهِ مَيْلًا إِلَيْهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الرِّيَاسَةُ وَلَا يَبْعُدُ عَلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى قِيَامِ الْقُدُومِ، وَقَدْ قَامَ لِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَيْضًا لَمَّا قَدِمَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْقِيَامِ الْمُتَعَارَفِ فِيمَا بَيْنَ الْأَنَامِ، مَعَ أَنَّ الْقِيَامَ إِنَّمَا اسْتَحَبَّهُ الْعُلَمَاءُ الْكِرَامُ لِمُجَرَّدِ الْإِكْرَامِ لَا لِلرِّيَاءِ وَالْإِعْظَامِ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، لَكِنَّهُ صَارَ مِنَ الْبَلْوَى الْعَامَّةِ، بِحَيْثُ لَوْ تَرَكَهُ عَالِمٌ لِظَالِمٍ اخْتَلَّ عَلَيْهِ النِّظَامُ، ثُمَّ قَالَ: وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حُرْمَةٍ نَحْوَ الرُّكُوعِ لِلْغَيْرِ إِعْظَامًا بِأَنَّ صُورَةَ نَحْوِ الرُّكُوعِ لَمْ تُعْهَدْ إِلَّا عِبَادَةً بِخِلَافِ صُورَةِ الْقِيَامِ انْتَهَى، وَفِيهِ أَنَّ الْقِيَامَ بِطَرِيقِ التَّمَثُّلِ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَكَابِرِ الزَّمَانِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ أَقْوَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ لِكَرَاهَةِ قِيَامِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ لِبَعْضِهِمْ، لَكِنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ جَوَازُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَافَ عَلَيْهِمُ الْفِتْنَةَ إِذَا أَفْرَطُوا فِي تَعْظِيمِهِ فَكَرِهَ قِيَامَهُمْ لَهُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: (لَا تُطْرُونِي)، وَلَمْ يَكْرَهْ قِيَامَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَقُولُ: هَذَا التَّقْرِيرُ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ فِيهِ تَحْرِيرٌ وَلَا يَتِمُّ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَامَ هُوَ لِبَعْضِهِمْ أَيْضًا مِثْلَ عِكْرِمَةَ وَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَامَ الْمُغِيرَةُ بِحَضْرَتِهِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ بَلْ أَقَرَّهُ وَأَمَرَ بِهِ، قُلْتُ: قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الْقِيَامَ كَانَ لِلْقَادِمِ وَلَيْسَ فِيهِ الْكَلَامُ، قَالَ: وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْأُنْسِ وَكَمَالِ الْوُدِّ وَالصَّفَاءِ لَا يَحْتَمِلُ زِيَادَةَ الْإِكْرَامِ بِالْقِيَامِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقِيَامِ مَقْصُودٌ، وَإِنْ فُرِضَ الْإِنْسَانُ صَارَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْقِيَامِ، أَقُولُ: مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْقِيَامِ، لَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ الْقِيَامُ لِمَزِيدِ الْإِكْرَامِ، وَمَنْ أَرَادَ الْقِيَامَ وَلَمْ يَتَّصِفْ بِحَالِ الْكِرَامِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَهَ لَهُ الْقِيَامُ. ثُمَّ الْأَصْحَابُ أَيْضًا- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فِيمَا بَيْنَهُمْ كَانَ لَهُمْ غَايَةُ الصَّفَا وَنِهَايَةُ الضِّيَاءِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَعَ مَا كَانُوا يَقُومُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ قِيَامَ الْمُتَعَارَفِ، وَقَالَ مِيرَكُ: لَكِنْ يُشْكِلُ هَذَا الْحَدِيثُ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا فَإِذَا قَامَ قُمْنَا قِيَامًا حَتَّى نَرَاهُ قَدْ دَخَلَ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِأَنَّ قِيَامَهُمْ كَانَ لِضَرُورَةِ الْفَرَاغِ لِيَتَوَجَّهُوا إِلَى أَشْغَالِهِمْ وَلَيْسَ لِلتَّعْظِيمِ، وَلِأَنَّ بَيْتَهُ كَانَ بَابُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْجِدُ لَمْ يَكُنْ وَاسِعًا إِذْ ذَاكَ، فَلَا يَتَأَتَّى أَنْ يَسْتَوُوا قِيَامًا إِلَّا وَهُوَ قَدْ دَخَلَ، قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ سَبَبَ تَأْخِيرِهِمْ حَتَّى دَخَلَ أَنْ يَحْتَمِلَ عِنْدَهُمْ أَمْرٌ يَحْدُثُ لَهُ حَتَّى لَا يَحْتَاجَ إِذَا تَفَرَّقُوا أَنْ يَتَكَلَّفَ اسْتِدْعَاءَهُمْ، ثُمَّ رَاجَعْتُ سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ فَوَجَدْتُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ مَا يُؤَيِّدُهُ وَهُوَ قِصَّةُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي جَبَذَ رِدَاءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا رَجُلًا فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ لَهُ عَلَى بَعِيرِهِ تَمْرًا وَشَعِيرًا، وَفِي آخِرِهِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ: انْصَرِفُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ انْتَهَى، وَقَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ: الْقِيَامُ مَكْرُوهٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْظَامِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ، وَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْقِيَامُ لِلْقَادِمِ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ مِنْ عِلْمٍ وَإِصْلَاحٍ، أَوْ شَرَفٍ مُسْتَحَبٌّ، وَقَدْ جَاءَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي النَّهْيِ عَنْهُ شَيْءٌ صَرِيحٌ وَقَدْ جَمَعْتُ كُلَّ ذَلِكَ مَعَ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ فِي جُزْءٍ وَأَجَبْتُ فِيهِ عَمَّا تُوُهِّمَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَيْسَ هَذَا مِنَ الْقِيَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِنَّمَا ذَاكَ فِيمَنْ يَقُومُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ وَيَمْكُثُونَ قِيَامًا طُولَ جُلُوسِهِ. (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا جُمَيْعٌ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ عُمَرَ) صَوَابُهُ عُمَيْرٌ بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعِجْلِيُّ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْجِيمِ (حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مِنْ وَلَدِ أَبِي هَالَةَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ وَيَجُوزُ بِالضَّمِّ وَالسُّكُونِ أَيْ مِنْ أَوْلَادِ أَبِي هَالَةَ (زَوْجِ خَدِيجَةَ) بَدَلٌ مِنْ أَبِي هَالَةَ (يُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَيَجُوزُ فَتْحُ كَافِهِ وَتَشْدِيدُ نُونِهِ مِنْ كَنَّى سَتَرَ، سَمَّى الْكُنْيَةَ بِذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِنْ تَرْكِ التَّصْرِيحِ بِالِاسْمِ وَالِاكْتِفَاءِ بِالْكِنَايَةِ، (عَنِ ابْنٍ لِأَبِي هَالَةَ) قِيلَ فِيهِ انْقِطَاعٌ لِابْنِ أَبِي هَالَةَ مِنْ قُدَمَاءِ الصَّحَابَةِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذَا مِنَ الطَّبَقَةِ السَّادِسَةِ، وَأَهْلُهَا لَمْ يُدْرِكُوا أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ (عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ) رَوَى عَنْ جَدِّهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَأَخُوهُ الْحُسَيْنُ رَوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَةَ أَحَادِيثَ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: (قَالَ) أَيِ الْحَسَنُ (سَأَلْتُ خَالِيَ) أَيْ أَخَا أُمِّهِ مِنْ أُمِّهَا (هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ وَكَانَ) أَيْ هِنْدٌ (وَصَّافًا) أَيْ كَثِيرَ الْوَصْفِ، وَفِي الْقَامُوسِ الْوَصَّافُ الْعَارِفُ بِالْوَصْفِ انْتَهَى، (عَنْ حِلْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ وَصْفًا صَادِرًا عَنْهَا وَالتَّقْدِيرُ وَصَّافًا بَحَّاثًا عَنْهَا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَجُمْلَةِ (وَأَنَا أَشْتَهِي أَنْ يَصِفَ لِي مِنْهَا شَيْئًا) إِمَّا مُعْتَرِضَتَانِ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِبَيَانِ كَمَالِ الْوُثُوقِ وَالضَّبْطِ لِمَا يَرْوِيهِ حَتَّى يُتَلَقَّى عَنْهُ بِالْقَبُولِ، أَوْ حَالِيَّتَانِ مُتَرَادِفَتَانِ، أَوْ مُتَدَاخِلَتَانِ عَنِ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، أَوِ الْأُولَى عَنِ الْمَفْعُولِ وَالثَّانِيَةُ عَنِ الْفَاعِلِ، وَفِي هَذَا خَفَاءٌ وَتَكَلُّفٌ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى (فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخْمًا) بِسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِهَا، أَيْ عَظِيمًا فِي ذَاتِهِ، (مُفَخَّمًا) أَيْ مُعَظَّمًا فِي صِفَاتِهِ، وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ عَظِيمًا مُعَظَّمًا فِي الصُّدُورِ وَالْعُيُونِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ خِلْقَتُهُ فِي جِسْمِهِ الضَّخَامَةَ (يَتَلَأْلَأُ وَجْهُهُ) أَيْ يَظْهَرُ لَمَعَانُ نُورِهِ وَيَلْمَعُ كَاللُّؤْلُؤِ (تَلَأْلُأَ الْقَمَرِ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ أَيْ: لَمَعَانَ نُورِ الْقَمَرِ (لَيْلَةَ الْبَدْرِ) أَيْ: وَقْتَ نِهَايَةِ نُورِهِ وَغَايَةِ ظُهُورِهِ (فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ) أَيْ: كَمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ بَابٍ (قَالَ الْحَسَنُ: فَكَتَمْتُهَا) أَيْ: هَذِهِ الْحِلْيَةَ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ (الْحُسَيْنَ) أَيْ: عَنْهُ فَنَصَبَهُ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَإِيصَالِ الْفِعْلِ عَلَى حَدِّ: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ) وَلَوْ ثَبَتَ تَشْدِيدُ (كَتَمْتُهَا) فَهُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي (زَمَانًا) أَيْ: مُدَّةً مَدِيدَةً أَوْ قَلِيلَةً عَدِيدَةً، قِيلَ: الْإِخْبَارُ اجْتِهَادُهُ وَجِدُّهُ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِحِلْيَةِ جَدِّهِ (ثُمَّ حَدَّثْتُهُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ) أَيْ: إِلَى السُّؤَالِ عَنْهَا مِنْ عِنْدِ خَالِهِ، (فَسَأَلَهُ) أَيِ: الْحُسَيْنُ (عَمَّا سَأَلْتُهُ) أَيْ: عَنْهُ (وَوَجَدْتُهُ) أَيِ: الْحُسَيْنَ زَائِدًا عَلَيَّ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْمَعْنَى (قَدْ سَأَلَ أَبَاهُ) أَيْ: عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَفِي نُسْخَةٍ أَبِي قَالَ الْحَنَفِيُّ: هَذَا مِنْ قَبِيلِ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ فِيهِ رَاوٍ عَنِ الْحُسَيْنِ انْتَهَى، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ مَا بَيْنَهُمَا لَمْ يُكْمِلْ سَنَةً (عِنْدَ مَدْخَلِهِ) أَيْ: طَرِيقِ سُلُوكِهِ حَالَ كَوْنِهِ دَاخِلَ بَيْتِهِ (وَعَنْ مَخْرَجِهِ) أَيْ: عَنْ أَطْوَارٍ خَارِجَ بَيْتِهِ (وَشَكْلِهِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ أَيْ: وَعَنْ طَرِيقَتِهِ الْمَسْلُوكَةِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي مَجْلِسِهِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مَخْرَجِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: حُسْنِ طَرِيقَتِهِ وَهَيْئَتِهِ وَيَجُوزُ فَتْحُهُ، وَمَعْنَاهُ حِينَئِذٍ: الْمِثْلُ وَالْمَذْهَبُ انْتَهَى. وَلَا مَعْنَى لِلْمِثْلِ وَالْمَذْهَبِ هُنَا اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالْمَذْهَبِ الْمَقْصِدُ كَمَا فَسَّرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: شَكْلُهُ مَعْنَاهُ عَمَّا يُشَاكِلُ أَفْعَالَهُ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَدْخَلِ وَالْمَخْرَجِ كِلَيْهِمَا، وَفِي النِّهَايَةِ الشِّكْلُ بِالْكَسْرِ الدَّلُّ، وَبِالْفَتْحِ الْمِثْلُ وَالْمَذْهَبُ وَفِيهِ مَا سَبَقَ، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الشَّكْلُ الشَّبَهُ وَالْمِثْلُ وَيُكْسَرُ وَمَا يُوَافِقُكَ وَمَا يَصْلُحُ لَكَ، يُقَالُ: هَذَا مِنْ هَوَايَ وَمِنْ شَكْلِي، وَوَاحِدُ الْأَشْكَالِ لِلْأُمُورِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُتَشَكِّلَةِ، وَصُورَةُ الشَّيْءِ الْمَحْسُوسَةُ وَالْمُتَوَهَّمَةُ وَالشَّاكِلَةُ وَالشَّكْلُ وَالنَّاحِيَةُ وَالطَّرِيقَةُ وَالْمَذْهَبُ قَالَ مِيرَكُ: وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ صِفَةِ شَكْلِهِ مَعَ قَوْلِهِ (فَلَمْ يَدَعْ) أَيْ: لَمْ يَتْرُكْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (مِنْهُ) أَيْ: مِمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ (شَيْئًا) أَوْ فَلَمْ يَدَعِ الْحُسَيْنُ مِنْهُ، أَيْ: مِنَ السُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِهِ شَيْئًا، وَالْعَجَبُ مِنْ شَارِحٍ؛ حَيْثُ قَالَ: الظَّاهِرُ جَعْلُ ضَمِيرِ مِنْهُ لِعَلِيٍّ (قَالَ الْحُسَيْنُ: فَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَهَذَا بَيَانٌ لِمَدْخَلِهِ (فَقَالَ: كَانَ إِذَا آوَى) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ مَدُّهُ أَيْ: إِذَا رَاجَعَ (إِلَى مَنْزِلِهِ) وَدَخَلَهُ (جَزَّأَ) بِتَشْدِيدِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْهَمْزِ أَيْ: قَسَّمَ وَوَزَّعَ (دُخُولَهُ) أَيْ: زَمَانَ دُخُولِهِ (ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ جُزْأً) أَيْ: حِصَّةً (لِلَّهِ) أَيْ: لِعِبَادَتِهِ مِنْ طَهَارَةٍ وَصَلَاةٍ وَتِلَاوَةٍ وَنَحْوِهَا، وَهُوَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ إِنْ كَانَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِبْدَالِ، وَكُلٌّ مِنْ كُلٍّ إِنْ كَانَ قَبْلَهُ (وَجُزْأً لِأَهْلِهِ) أَيْ: لِلِالْتِفَاتِ إِلَى مَعْرِفَةِ أَحْوَالِهِمْ وَسَمَاعِ أَقْوَالِهِمْ وَرُؤْيَةِ أَفْعَالِهِمْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالْمُكَالَمَةِ وَالْمُلَايَمَةِ وَالْمُدَاعَبَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ يُرْسِلُ لِعَائِشَةَ بَنَاتِ الْأَنْصَارِ يَلْعَبْنَ مَعَهَا وَأَنَّهَا إِذَا شَرِبَتْ مِنْ إِنَاءٍ أَخَذَهُ فَوَضَعَ فَمَهُ عَلَى مَوْضِعِ فَمِهَا فَشَرِبَ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ: مَا رَأَيْتُ صَانِعَةَ طَعَامٍ مِثْلَ صَفِيَّةَ أَهْدَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَاءً مِنْ طَعَامٍ فَمَا مَلَكْتُ نَفْسِي أَنْ كَسَرْتُهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَفَّارَتُهُ؟ قَالَ: إِنَاءٌ كَإِنَاءٍ، وَطَعَامٌ كَطَعَامٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَخَذْتُهَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَضَرَبْتُهَا وَكَسَرْتُهَا فَقَامَ يَلْتَقِطُ اللَّحْمَ وَالطَّعَامَ وَيَقُولُ غَارَتْ أُمُّكُمْ، وَهَذَا مِنْ خُلُقِهِ الْعَظِيمِ، وَحِلْمِهِ الْكَرِيمِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْغَيْرَى لَا تُؤَاخَذُ لِحَجْبِ عَقْلِهَا بِمَا يَثُورُ عَنِ الْغَيْرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ الْغَيْرَى لَا تُبْصِرُ أَسْفَلَ الْوَادِي مِنْ أَعْلَاهُ (وَجُزْأً لِنَفْسِهِ) أَيْ: وَيَفْعَلُ فِيهِ مَا يَعُودُ عَلَيْهَا بِالتَّكْمِيلِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، وَفَصَلَهُ عَنِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لِمَحْضِ الشُّهُودِ بِجَمَالِ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَصَاحِبِ الْكَرَمِ وَالْجُودِ فِي مَرْتَبَةِ جَمْعِ الْجَمْعِ، وَالْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ، فَكَانَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مُخْتَصًّا بِحَالِ الْفَنَاءِ الْمُنَاسِبِ لِمَقَامِ التَّضَرُّعِ وَالثَّنَاءِ، وَالْجُزْءُ الثَّانِي مُخْتَصًّا بِبَقَاءِ الْحَظِّ النَّفْسَانِيِّ، وَالْجُزْءُ الثَّالِثُ هُوَ مَقَامُ الْجَمْعِ الْأَكْمَلِ، وَهُوَ حَالُ الْأَصْفِيَاءِ الْكُمَّلِ الَّذِينَ رُتْبَتُهُمُ التَّكْمِيلُ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ (ثُمَّ جَزَّأَ جُزْأَهُ) أَيِ: الْمُخْتَصَّ بِنَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْمُنِيفَةِ الْمُحِيطَةِ بِالطَّرَفَيْنِ مِنَ الْحَالَيْنِ (وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ) أَيْ: عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنَ الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ الْمُلْتَجِئِينَ إِلَيْهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (فَرَدَّ) وَفِي نُسْخَةٍ فَيَرُدُّ أَيْ فَيَصْرِفُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ذَلِكَ) أَيِ: الْجُزْءَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ (بِالْخَاصَّةِ) أَيْ: بِسَبَبِهِمْ (عَلَى الْعَامَّةِ) مُتَعَلِّقٌ بِـ (رَدَّ) قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَاصَّةَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ الْعَامَّةِ فَتَسْتَفِيدُ ثُمَّ تُخْبِرُ الْعَامَّةَ بِمَا سَمِعَتْ مِنَ الْعُلُومِ فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوصِلُ الْفَوَائِدَ إِلَى الْعَامَّةِ بِوَاسِطَةِ الْخَاصَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِيمَا بَعْدُ (يَدْخُلُونَ رُوَّادًا وَيَخَرُجُونَ أَدِلَّةً). وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَاءَ فِيهِ بِمَعْنَى مِنْ أَيْ: يَرُدُّ عَلَى الْعَامَّةِ مِنْ جُزْءِ الْخَاصَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْعَلَ الْعَامَّةَ مَكَانَ الْخَاصَّةِ فَيَرُدُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ بَدَلًا مِنَ الْخَاصَّةِ. كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْمُنْتَقَى وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ ثُمَّ جَزَّأَ جُزْأَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فَصَيَّرَهُ جُزْأَيْنِ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ لَمَّا عَادَ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ هُوَ نَفْسُهُ الشَّرِيفَةُ كَانَا بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَاتَّضَحَ قَوْلُهُ (ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ) فَغَيْرُ مَضْبُوطٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَرْبُوطٍ (وَلَا يَدَّخِرُ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَإِنْ جُوِّزَ فِي اللُّغَةِ إِعْجَامُ الذَّالِ فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ هُوَ بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ أَوْ مُهْمَلَةٍ إِذْ أَصْلُهُ يَذْتَخِرُ فَقُلِبَتِ التَّاءُ ذَالًا مُعْجَمَةً ثُمَّ هِيَ مُهْمَلَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ أَوْ مُهْمَلَةٌ ثُمَّ هِيَ مُعْجَمَةٌ، وَأُدْغِمَتْ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ مَعَ أَنَّ قَلْبَ التَّاءِ ذَالًا مُعْجَمَةً غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ فِي الْإِعْلَالِ: إِنَّ أَصْلَهُ لَا يَذْتَخِرُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى أَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنَ الذَّخِيرَةِ فَقُلِبَتْ تَاؤُهُ دَالًا لِلْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي عِلْمِ الصَّرْفِ، ثُمَّ قُلِبَتِ الْمُعْجَمَةُ مُهْمَلَةً لِقُرْبِ الْمَخْرَجِ، ثُمَّ أُدْغِمَتْ فِي الْأُخْرَى لِلْمُمَاثَلَةِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقْلِبَ الدَّالَ الْمُهْمَلَةَ الْمُنْقَلِبَةَ عَنِ التَّاءِ ذَالًا مُعْجَمَةً فَتُدْغَمُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُخْفِي (عَنْهُمْ) أَيْ: عَنِ الْعَامَّةِ أَوْ عَنِ الْخَاصَّةِ ثُمَّ تَصِلُ إِلَى الْعَامَّةِ أَوْ عَنْهُمَا أَوْ عَنِ النَّاسِ (شَيْئًا) أَيْ: مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ وَفِيهِ نَفْعٌ لِخُصُوصِهِمْ أَوْ عُمُومِهِمْ (وَكَانَ مِنْ سِيرَتِهِ) أَيْ: مِنْ (طَرِيقَتِهِ فِي جُزْءِ الْأُمَّةِ) أَيْ: فِي حِصَّتِهِمْ مِنَ الدَّاخِلِينَ عَلَيْهِ وَالْوَاصِلِينَ إِلَيْهِ. (إِيثَارُ أَهْلِ الْفَضْلِ) أَيِ: اخْتِيَارُ أَهْلِ الْفَضْلَةِ الزَّائِدَةِ حَسَبًا أَوْ نَسَبًا أَوْ سَبْقًا أَوْ صَلَاحًا فَيُقَدِّمُهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي الدُّخُولِ وَالتَّوَجُّهِ وَالْإِقْبَالِ وَالْإِفَادَةِ وَإِبْلَاغِ أَحْوَالِ الْعَامَّةِ (بِإِذْنِهِ) أَيْ: بِإِذْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ وَأَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ جَعَلَ الضَّمِيرَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ، وَالْإِضَافَةَ إِلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِفَتْحِ أَوَّلَيْهِ وَأَصْلُهُ صِغَارُ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَنَحْوِهِمَا، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَخُصُّ أَهْلَ الْفَضْلِ بِأَشْبَاهِ ذَلِكَ وَيُقَسِّمُهُ عَلَى قَدْرِ فَضْلِهِمْ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ (وَقَسْمُهُ) أَيْ: فِيهِمْ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (عَلَى قَدْرِ فَضْلِهِمْ فِي الدِّينِ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ مَصْدَرُ قَسَمَهُ، وَرَفَعَهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَفْعُولُ مُقَدَّرٌ أَيْ: مَا عِنْدَهُ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْجُزْءِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ (فَضْلِهِمْ) فِي الدِّينِ احْتِرَازًا عَنْ فَضْلِهِمْ فِي أَحْسَابِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ كَمَا وَرَدَ (خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا) (فَمِنْهُمْ) الْفَاءُ لِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَهُ أَوَّلًا أَيْ: فَبَعْضُ أَهْلِ الْفَضْلِ أَوِ الْأَصْحَابِ وَالنَّاسِ (ذُو الْحَاجَةِ) أَيِ: الْوَاحِدَةِ (وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَوَائِجِ) وَالْحَاجَاتُ أَعَمُّ مِنَ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ (فَيَتَشَاغَلُ بِهِمْ) أَيْ: يَجْعَلُ نَفْسَهُ مَشْغُولَةً بِذِي الْحَاجَةِ وَمَنْ بَعْدَهُ أَوْ فَيُشْغَلُ بِهِمْ وَيُشْغَلُونَ بِهِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ (بِهِمْ) وَإِنْ كَانَ الْمُتَبَادِرُ هُوَ الثَّانِي لِلتَّفَاعُلِ (وَيُشْغِلُهُمْ) مِنِ الْإِشْغَالِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْغَيْنِ مِنَ الشَّغْلِ أَيْ: يَجْعَلُهُمْ مَشْغُولِينَ (فِيمَا يُصْلِحُهُمْ) قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَيُشْغِلُهُمْ مِنَ الْإِشْغَالِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي التَّاجِ: الْإِشْغَالُ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ فِي الشَّغْلِ انْتَهَى. وَقَالَ مِيرَكُ: فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمَسْمُوعَةِ الْمُصَحَّحَةِ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ الْإِشْغَالِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَدْ شَغَلَتْ فُلَانًا شَاغِلٌ وَلَا تَقُلْ أَشْغَلَتْ؛ لِأَنَّهَا لُغَةٌ رَدِيئَةٌ انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْرَأَ هَذِهِ الْكَلِمَةُ بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنَ الْمُجَرَّدِ وَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِالضَّمِّ فَلَا يَنْبَغِي إِطْلَاقُ الرَّدَاءَةِ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: أَشْغَلَهُ لُغَةٌ جَيِّدَةٌ أَوْ قَلِيلَةٌ أَوْ رَدِيئَةٌ، قُلْتُ: لَوْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ لَكَفَرَ مَنْ قَالَ بِالرَّدِيئَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْعَلُ الدَّاخِلِينَ عَلَيْهِ مَشْغُولِينَ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَفِي نُسْخَةٍ: أَصْلَحَهُمْ وَفِي أُخْرَى بِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ أَيْ: يَشْغَلُهُمْ بِالْأَمْرِ الَّذِي يُصْلِحُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ ثُمَّ قَوْلُهُ (وَالْأُمَّةَ) بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يُصْلِحُهُمْ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ سَوَاءٌ كَانَتِ الْأُمَّةُ أُمَّةَ الدَّعْوَةِ وَالْإِجَابَةِ أَوْ أَعَمَّ مِنْهُمَا (مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْهُ) قَالَ الْحَنَفِيُّ: مِنْ بَيَانٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ مَا يُصْلِحُهُمْ يَعْنِي أَنَّ مَا يُصْلِحُهُمْ وَالْأُمَّةَ هُوَ مَسْأَلَتُهُمْ عَنْهُ وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْهُمْ بَدَلَ عَنْهُ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ الْأَصْوَبَ أَنَّ مِنْ تَعْلِيلِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى مِنْ أَجْلِ سُؤَالِهِمْ إِيَّاهُ عَنْهُ أَيْ: عَنْ مَا يُصْلِحُهُمْ وَفِي نُسْخَةٍ عَنْهُمْ أَيْ: عَنْ أَحْوَالِهِمُ انْتَهَى، وَوَقَعَ فِي كِتَابِ (الْوَفَاءِ) لِابْنِ الْجَوْزِيِّ فَيَشْغَلُهُمْ فِيمَا أَصْلَحَهُمْ مِنْ مَسْأَلَتِهِ عَنْهُمْ وَإِخْبَارِهِمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمُ انْتَهَى (وَإِخْبَارِهِمْ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مَجْرُورًا عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ عَطْفٌ عَلَى مَسْأَلَتِهِمْ، وَالْإِضَافَةُ إِمَّا إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ: إِخْبَارِهِمْ إِيَّاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ) فَحِينَئِذٍ هَذَا مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ التَّفْسِيرِ، أَوِ الْمَعْنَى: إِخْبَارُهُمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ أَيْ: لِمَنْ هُوَ لَيْسَ بِحَاضِرٍ بَلْ هُوَ غَائِبٌ فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ (وَيَقُولُ) أَيْ: بَعْدَ الْإِفَادَةِ لَهُمْ (لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ) كَالْمُبَيِّنِ لَهُ أَوْ إِلَى الْمَفْعُولِ يَعْنِي إِخْبَارَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَسْأَلَتِهِمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ فَيَكُونُ هَذَا إِشَارَةً إِلَى جَوَابِ مَسْأَلَتِهِمْ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَفَيْدُ، كَذَا أَفَادَهُ الْحَنَفِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِخْبَارُهُمْ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ وَفَاعِلُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: وَمِنْ أَجْلِ إِخْبَارِهِ إِيَّاهُمْ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَسْأَلَتِهِمْ وَزَعْمُ عَطْفِهِ عَلَى مَا يُصْلِحُهُمْ تَكَلُّفٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ وَفِي نُسْخَةٍ بِإِخْبَارِهِمْ عَطْفٌ عَلَى بِهِمْ وَهُوَ ظَاهِرٌ بَلْ لَوْ حُمِلَ عَلَيْهِ النُّسْخَةُ الْأُولَى لَكَانَ أَوْضَحَ انْتَهَى، وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى. ثُمَّ قَوْلُهُ (لِيُبَلِّغْ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنَ التَّبْلِيغِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا مِنَ الْإِبْلَاغِ وَيُسَاعِدُهُ قَوْلُهُ (وَأَبْلِغُونِي) أَيْ: يَقُولُ لَهُمْ أَيْضًا أَوْصِلُوا إِلَيَّ (حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا) أَيْ: مِنَ الضُّعَفَاءِ كَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ (فَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ (مَنْ أَبْلَغَ سُلْطَانًا) أَوْ وَالِيًا أَوْ قَادِرًا (حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِبْلَاغَهَا) أَيْ: دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً (ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: عَلَى الصِّرَاطِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَرَّكَهُمَا فِي إِبْلَاغِ حَاجَةِ هَذَا الضَّعِيفِ وَمَشَى بِهِمَا فِي مُسَاعَدَةِ الضَّعِيفِ جُوزِيَ بِعَوْدِ صِفَةٍ كَامِلَةٍ تَامَّةٍ لَهُمَا وَهِيَ ثَبَاتُهُمَا عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ جَزَاءً وِفَاقًا (وَلَا يُذْكَرُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: لَا يُحْكَى (عِنْدَهُ إِلَّا ذَلِكَ) أَيْ: مَا يُذْكَرُ مِنَ النَّاسِ وَالْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: أَيْ مَا يُصْلِحُهُمْ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا ثُمَّ الْحَصْرُ غَالِبِيٌّ أَوْ إِضَافِيٌّ، وَالْمَعْنَى لَا يُذْكَرُ عِنْدَهُ إِلَّا مَا يُفِيدُهُمْ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ دُونَ مَا لَا يَنْفَعُ فِيهِمَا كَالْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ الَّتِي لَا فَائِدَةَ فِيهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ لَا تُذْكَرُ عِنْدَهُ غَالِبًا؛ لِأَنَّهُ وَإِيَّاهُمْ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ عَنْ ذَلِكَ (وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ) أَيْ: مِنْ كَلَامِ أَحَدٍ شَيْئًا (غَيْرَهُ) أَيْ: غَيْرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَاجَةِ أَحَدٍ فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالْمُؤَكَّدَةِ بِمَا قَبْلَهَا (يَدْخُلُونَ) أَيِ: النَّاسُ عَلَيْهِ (رُوَّادًا) بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ: جَمْعُ رَائِدٍ بِمَعْنَى طَالِبٍ أَوْ طَالِبِينَ لِلْمَنَافِعِ وَالْحِكَمِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى النِّعَمِ مُلْتَمِسِينَ لِلْحَاجَاتِ الدَّافِعَةِ عَنِ النِّقَمِ، وَالرَّائِدُ فِي الْأَصْلِ مَنْ يَتَقَدَّمُ الْقَوْمَ لِيَنْظُرَ لَهُمُ الْكَلَاءَ وَمَسَاقِطَ الْغَيْثِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِتَقَدُّمِ أَفَاضِلِ أَصْحَابِهِ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ لِيَسْتَفِيدُوا أَوْ يُفِيدُوا سَائِرَ الْأُمَّةِ وَيَكُونَ سَبَبًا لِوِقَايَتِهِمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَهَالِكِ وَمَوَاقِعِ الظُّلْمَةِ (وَلَا يَفْتَرِقُونَ إِلَّا عَنْ ذَوَّاقٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ فَعَّالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنَ الذَّوْقِ وَيَقَعُ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالِاسْمِ أَيْ: عَنْ مَطْعُومٍ حِسِّيٍّ عَلَى مَا هُوَ الْأَغْلَبُ أَوْ مَعْنَوِيٍّ مِنَ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ فَإِنَّهُ يَقُومُ لِأَرْوَاحِهِمْ مَقَامَ الطَّعَامِ لِأَجْسَادِهِمْ وَعَنْ بِمَعْنَى بَعْدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} وَقَالَ مِيرَكُ: الْأَصْلُ فِي الذَّوَّاقِ الطَّعَامُ إِلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ كُلَّهُمْ حَمَلُوهُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الذَّوْقَ قَدْ يُسْتَعَارُ كَمَا فِي الْقُرْآنِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ أَيْ: لَا يَقُومُونَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَّا وَقَدِ اسْتَفَادُوا عِلْمًا جَزِيلًا وَخَيْرًا كَثِيرًا وَيُلَائِمُهُ قَوْلُهُ (وَيَخْرُجُونَ) أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ (أَدِلَّةً) جَمْعُ دَلِيلٍ أَيْ هُدَاةً لِلنَّاسِ كَمَا وَرَدَ (أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ) قَالَ مِيرَكُ: الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمَسْمُوعَةُ الْمُصَحَّحَةُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا قَدْ عَلِمُوهُ فَيَدُلُّونَ النَّاسَ وَيُنْبِئُونَهُمْ بِهِ، وَهُوَ جَمْعُ دَلِيلٍ مِثْلُ شَحِيحٍ وَأَشِحَّةٍ وَسَرِيرٍ وَأَسِرَّةٍ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى لِلْعَلَّامَةِ سَعْدِ الدِّينِ الْكَازَرُونِيِّ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: يَخْرُجُونَ مُتَّعِظِينَ بِمَا وُعِظُوا مُتَوَاضِعِينَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وَهُوَ حَسَنٌ إِنْ سَاعَدَتْهُ الرِّوَايَةُ انْتَهَى. وَأَقُولُ: فَعَلَى هَذَا لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ (يَعْنِي عَلَى الْخَيْرِ) إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى: كَائِنِينَ عَلَى الْخَيْرِ، قُلْتُ: الْأَظْهَرُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ عَلَى بِمَعْنَى مَعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}، وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ أَوْ إِرَادَةُ الْخَيْرِ فَيَقْصِدُهُ لِأَهْلِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَزِيدُهُمْ زِيَادَةُ الْعِلْمِ إِلَّا تَوَاضُعًا وَاسْتِصْغَارًا لَا عُتُوًّا وَاسْتِكْبَارًا كَمَا رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- مَرْفُوعًا (مَنِ ازْدَادَ عِلْمًا وَلَمْ يَزْدَدْ فِي الدُّنْيَا زُهْدًا لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا) (قَالَ) أَيِ: الْحُسَيْنُ (فَسَأَلْتُهُ) أَيْ: أَبِي (عَنْ مَخْرَجِهِ) أَيْ: عَنْ أَطْوَارِ زَمَانِ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِيهِ، قَالَ:) أَيْ: عَلِيٌّ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْزُنُ) بِضَمِّ الزَّايِ وَكَسْرِهَا أَيْ: يَحْفَظُ (لِسَانَهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ: يَهُمُّهُ وَيَنْفَعُهُ (وَيُؤَلِّفُهُمْ) عَطْفٌ عَلَى يَعْنِيهِ أَوْ عَلَى يَخْزُنُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ إِبْدَالُهُ وَاوًا بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنَ الْأُلْفَةِ أَيْ: يَجْعَلُهُمْ رُحَمَاءَ وَيَجْمَعُهُمْ كَأَنَّهُمْ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ مِنْ أَلَّفْتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ تَأْلِيفًا وَيُقَالُ أَيْضًا: أَلَّفَ مُؤَالَفَةً أَيْ: مُكَمَّلَةً أَيْ: وَيُكَمِّلُهُمْ فِي مَرْتَبَةِ الْأُلْفَةِ وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ أَيْ: يُعْطِيهِمُ الْوَفَاءَ مَعَ عَدَمِ مُلَائَمَتِهِ لِقَوْلِهِ (وَلَا يُنَفِّرُهُمْ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: لَا يُلْقِيهِمْ فِي فِعْلِهِ، وَقَوْلُهُ بِمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى النُّفُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِ: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} وَقَدْ وَرَدَ: «بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُّوا وَلَا تُعَسِّرُوا» وَأَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ فِي قَوْلِهِ، وَالْمَعْنَى لَا يُفَضِّلُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْحَسَبِ مَعَ أَنَّهُ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ (وَيُكْرِمُ) مِنَ الْإِكْرَامِ أَيْ: يُعَظِّمُ (كَرِيمَ كُلِّ قَوْمٍ) أَيْ: بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا (إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ، وَهُوَ أَفْضَلُهُمْ دِينًا وَنَسَبًا وَحَسَبًا) فَالْمَعْنَى كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: يَجْعَلُهُمْ أَلِفِينَ مُقْبِلِينَ عَلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِمْ أَوْ يُؤَلِّفُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْنَهُمْ تَبَاغُضٌ بِوَجْهِهِ وَمِنْ ثَمَّةَ امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} وَمَا قِيلَ أَنَّ مَعْنَى يُؤَلِّفُهُمْ يُعْطِيهِمُ الْوَفَاءَ فَهُوَ لَا يُوَافِقُ اللُّغَةَ وَلَا الْمُرَادَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ يَتَأَلَّفُ بِالْمَالِ جُفَاةَ أَصْحَابِهِ مِمَّنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِسْلَامُ فِيهِمْ تَمَكُّنَهُ فِي غَيْرِهِمْ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. (وَيُوَلِّيهِ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: يَجْعَلُ كَرِيمَهُمْ وَالِيًا (عَلَيْهِمْ) وَهَذَا مِنْ تَمَامِ حُسْنِ نَظَرِهِ وَعَظِيمِ تَدْبِيرِهِ فَإِنَّ الْقَوْمَ طَوْعٌ لِكَبِيرِهِمْ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْكَرَمِ الْمُقْتَضِي لِأَنْ يَتَقَدَّمَ (وَيَحْذَرُ النَّاسَ) بِفَتْحِ الذَّالِ مِنَ الْحَذَرِ بِمَعْنَى الِاحْتِرَاسِ وَأَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ فِي جَعْلِهِ بِمَعْنَى الِاتِّقَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ التَّحْذِيرِ أَيْ: يُخَوِّفُهُمْ قَالَ مِيرَكُ: أَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَلَى فَتْحِ الْيَاءِ وَالذَّالِ وَتَخْفِيفِهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِهِ (وَيَحْتَرِسُ مِنْهُمْ) أَيْ: يَحْفَظُ نَفْسَهُ مِنْ أَذَاهُمْ أَوْ مِنْ نُفُورِهِمْ وَإِنْ رُوِيَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ وَكَسْرِهَا فَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا لِمَفْعُولَيْنِ، وَالْمَرْجُوُّ أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ؛ لِأَنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُ كُلِّ لَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ كَانَ أَوْلَى فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُحَذِّرُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْحَزْمِ وَيَحْذَرُ هُوَ أَيْضًا مِنْهُمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يُحَذِّرُ النَّاسَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ فَيَكُونُ التَّحْذِيرُ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَيُحَذِّرُ النَّاسَ الْفِتَنَ فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ، قُلْتُ: بَلْ يُقَالُ: الْمُرَادُ بِالتَّحْذِيرِ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا قَوْلُ مِيرَكَ شَاهْ أَنَّ التَّحْذِيرَ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ مَعْنًى حَسَنٌ لَكِنْ لَا يُلَائِمُ الْمَقَامَ فَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ نَفْيِ الْمَرَامِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يَحْتَرِسُ مِنْهُمُ احْتِرَاسًا (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْوِيَ) بِكَسْرِ الْوَاوِ يَمْنَعُ (عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ) أَيْ: مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَفِي نُسْخَةٍ مِنْهُ أَيْ: مِنَ الْإِنْسَانِ وَفِي أُخْرَى مِنْ أَحَدِهِمْ (بِشْرَهُ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ: طَلَاقَةَ وَجْهِهِ وَبَشَاشَةَ بَشْرَتِهِ وَفِيهِ دَفْعُ تَوَهُّمٍ نَشَأَ مِنْ قَوْلِهِ يَحْتَرِسُ وَلِذَا أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ (وَلَا خُلُقَهُ) بِضَمَّتَيْنِ أَوْ ضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: وَلَا حُسْنَ خُلُقِهِ (وَيَتَفَقَّدُ أَصْحَابَهُ) أَيْ: يَطْلُبُهُمْ وَيَسْأَلُ عَنْهُمْ حَالَ غَيْبَتِهِمْ فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَرِيضًا يَعُودُهُ أَوْ مُسَافِرًا يَدْعُو لَهُ أَوْ مَيِّتًا فَيَسْتَغْفِرُ لَهُ (وَيَسْأَلُ النَّاسَ) أَيْ: عُمُومًا أَوْ خُصُوصًا (عَمَّا فِي النَّاسِ) أَيْ: عَمَّا وَقَعَ فِيهِمْ مِنَ الْمَحَاسِنِ وَالْمَسَاوِئِ الظَّاهِرَةِ لِيَدْفَعَ ظُلْمَ الظَّالِمِ عَنِ الْمَظْلُومِ أَوْ عَمَّا هُوَ مُتَعَارَفٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَتَجَسَّسُ عَنْ عُيُوبِهِمْ وَيَتَفَحَّصُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ (وَيُحَسِّنُ الْحَسَنَ) بِتَشْدِيدِ السِّينِ مِنَ التَّحْسِينِ أَيْ: يَحْكُمُ بِحُسْنِ الْحَسَنِ أَوْ يَنْسُبُهُ إِلَيْهِ (وَيُقَوِّيهِ) مِنَ التَّقْوِيَةِ أَيْ: وَيُظْهِرُ تَقْوِيَتَهُ بِدَلِيلٍ مَنْقُولٍ أَوْ مَعْقُولٍ (وَيُقَبِّحُ الْقَبِيحَ) بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ مِنَ التَّقْبِيحِ (وَيُوهِّيهِ) بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ وَتَخْفِيفِهَا مِنَ التَّهْوِيَةِ وَالْإِيهَاءِ أَيْ: يُضْعِفُهُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْوَجْهَيْنِ مِنَ الْوَهْنِ، وَالْمَآلُ وَاحِدٌ وَقِيلَ الْمَعْنَى يَقْبَلُ الْحَسَنَ وَيُثْنِيهِ وَيَرُدُّ الْقَبِيحَ وَيَعِيبُهُ (مُعْتَدِلُ الْأَمْرِ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّرٌ هُوَ، وَهُوَ قَوْلُهُ (غَيْرُ مُخْتَلِفٍ) عَطْفٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيُّ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِمَا بِالرَّفْعِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ السِّيَاقِ نَصْبُهُ عَطْفًا عَلَى خَبَرِ كَانَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِحَذْفِ حَرْفِ الْعَاطِفِ وَلَعَلَّ وَجْهَ الْعُدُولِ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ أَنَّ تِلْكَ الْأَخْبَارَ الْمُتَعَاطِفَةَ أُمُورٌ تَطْرَأُ عَلَيْهِ تَارَةً وَأَضْدَادُهَا أُخْرَى، كَكَوْنِهِ يَخْزُنُ لِسَانَهُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُعْتَدِلَ الْأَمْرِ وَمَا بَعْدَهُ فَهِيَ أُمُورٌ لَازِمَةٌ لَهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا أَبَدًا فَتَعَيَّنَ لِإِفَادَةِ ذَلِكَ قَطْعُهَا عَمَّا قَبْلَهَا وَذِكْرُهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْبَدِيعِ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: وَكَانَ جُمْلَةُ (مُعْتَدِلُ الْأَمْرِ) مُعْتَرِضَةً أَيْ: بِنَاءً عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ (وَلَا يَغْفُلُ) بِالْعَطْفِ لَكِنَّ الَّذِي فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ حَذْفُ الْوَاوِ فَتَعَيَّنَ مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ حَالٌ مُخَالِفٌ لِلنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الِاعْتِدَالِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مَحْفُوظَةٌ عَنْ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهَا أُمُورٌ مُتَخَالِفَةُ الْمَحَامِلِ مُتَعَارِضَةُ الْأَوَاخِرِ وَالْأَوَائِلِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْشَأُ عَنْ خِفَّةِ الْعَقْلِ وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ وَالشَّمَائِلِ، وَأَمَّا مَنْ كَمُلَتْ لَهُ الْمَحَاسِنُ فَجَمِيعُ أُمُورِهِ مُنْتَظِمَةٌ وَأَحْوَالُهُ مُلْتَئِمَةٌ وَمَآلُ اعْتِدَالِ الْأَمْرِ وَعَدَمِ اخْتِلَافِهِ وَاحِدٌ فَكَانَ الثَّانِي مُؤَكِّدًا لِلْأَوَّلِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَا يَغْفُلُ بِسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ الْفَاءِ هُوَ الْمَضْبُوطُ فِي الْأُصُولِ وَالْمَعْنَى لَا يَغْفُلُ عَنْ مَصَالِحِهِمْ مِنْ تَذْكِيرِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَنَصِيحَتِهِمْ وَإِمْدَادِهِمْ (مَخَافَةَ أَنْ يَغْفُلُوا) أَيْ: عَنْهَا بِنَاءً عَلَى مُرَاعَاةِ الْمُتَابَعَةِ، وَإِنَّ النَّاسَ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ وَإِنَّ الْمُرِيدِينَ عَلَى دَأْبِ شُيُوخِهِمْ وَالتَّلَامِيذَ عَلَى طَرِيقَةِ أُسْتَاذِيهِمْ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يَغْفُلُوا عَنِ الِاسْتِفَادَةِ فَيَقَعُوا فِي عَدَمِ الِاسْتِقَامَةِ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْفَاءِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى وَزْنِ يَعْلَمُ وَمَخَافَةَ أَنْ يَفْعَلُوا كَذَلِكَ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَفْعَلُ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ مَخَافَةَ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِمْ (وَيَمَلُّوا) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنَ الْمَلَالَةِ لِقَوْلِهِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- (خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا). وَفِي نُسْخَةٍ (أَوْ يَمَلُّوا) بِكَلِمَةِ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: لِلشَّكِّ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِثُبُوتِ أَصْلِ الْفِعْلِ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ وَفِي نُسْخَةٍ (أَوْ يَمِيلُوا) مِنَ الْمَيْلِ أَيْ: يَمِيلُوا إِلَى الدَّعَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُهُ نَفْيُ الْغَفْلَةِ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ جَعَلَهُ أَصْلًا وَالْبَاقِيَ نَسْخًا (لِكُلِّ حَالٍ) أَيْ: مِنْ أَحْوَالِهِ وَغَيْرِهِ (عِنْدَهُ عَتَادٌ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ الْعُدَّةُ وَالتَّأَهُّبُ مِمَّا يَصْلُحُ لِكُلِّ مَا يَقَعُ يَعْنِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَعَدَّ لِلْأُمُورِ أَشْكَالَهَا وَنَظَائِرَهَا كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَعَدَّ لِكُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ حُكْمًا مِنَ الْأَحْكَامِ وَدَلِيلًا مِنْ أَدِلَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ مُسْتَعِدًّا لِجَمِيعِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ (لَا يُقَصِّرُ) مِنَ التَّقْصِيرِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِضَمِّ الصَّادِ مِنَ الْقُصُورِ، وَهُوَ الْعَجْزُ وَمَآلُهُمَا وَاحِدٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَقَعُ مِنْهُ تَقْصِيرٌ عَمْدًا وَلَا قُصُورٌ خَطَأً (عَنِ الْحَقِّ) أَيْ: عَنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ لِصَاحِبِهِ إِنْ عَلِمَ مِنْهُ شُحًّا فِيهِ وَلَا يُعْطِي فِيهِ رُخْصَةً وَلَا تَهَاوُنًا وَزَعَمَ أَنْ لَا يُقَصِّرَ إِذَا كَانَ مُخَفَّفًا صِفَةَ (عَتَادٌ) لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَنْبُو عَنْهُ بِكُلِّ وَجْهِهِ كَمَا هُوَ جَلِيٌّ عِنْدَ أَهْلِهِ (وَلَا يُجَاوِزُهُ) أَيْ: لَا يُجَاوِزُ الْحَقَّ وَلَا يَتَعَدَّى عَنْهُ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي فِعْلِهِ إِفْرَاطٌ وَلَا تَفْرِيطٌ كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّهُ لَا مَجَالَ هُنَا لِذِكْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ إِثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا انْتَهَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا هُوَ حَدُّ الِاعْتِدَالِ وَعَدَمُ الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ فِي الْمَقَالِ، وَلِذَا يُعَاقَبُ اثْنَانِ فِي حَدٍّ وَاحِدٍ زَادَ أَحَدُهُمَا وَاحِدًا مِنَ الْأَعْدَادِ وَالْآخَرُ نَقَصَ وَاحِدًا مِنْهَا عَنِ الْمُرَادِ وَيُعَاقَبُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ غَضَبَكَ وَحُكْمَكَ وَتَدْبِيرَكَ أَزْيَدُ مِنَّا وَالثَّانِي بِأَنَّ عِلْمَكَ وَحِلْمَكَ وَرَحْمَتَكَ أَكْثَرُ مِنَّا (الَّذِينَ يَلُونَهُ) مِنَ الْوَلْيِ بِمَعْنَى الْقُرْبِ أَيِ الْمُقَرَّبُونَ لَهُ (مِنَ النَّاسِ خِيَارُهُمْ) أَيْ: خِيَارُ النَّاسِ، وَهُوَ خَبَرُ الْمَوْصُولِ وَمِنْ بَيَانٌ لَهُ (أَفْضَلُهُمْ عِنْدَهُ أَعَمُّهُمْ نَصِيحَةً) أَيْ: لِلْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ (أَلَا إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ) وَكَرَّرَهُ ثَلَاثًا (وَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً) أَيْ: مَرْتَبَةً (أَحْسَنُهُمْ مُوَاسَاةً) أَيْ: بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (وَمُوَازَرَةٌ) أَيْ: مُعَاوَنَةً فِي مُهِمَّاتِ الْأُمُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَكِلَاهُمَا بِالْوَاوِ فَإِنَّ الْمُوَاسَلَةَ بِمَعْنَى الْمُسَاوَاةِ فِي الْأُمُورِ كَالْمَعَاشِ وَالرِّزْقِ يُقَالُ: آسَيْتُهُ بِمَالٍ مُوَاسَاةً أَيْ: جَعَلْتُهُ أُسْوَتِي فِيهِ فَأَصْلُهَا بِالْهَمْزِ فَقُلِبَتْ وَاوًا تَخْفِيفًا كَمَا قَرَأَ وَرْشٌ {لَا تُوَاخِذْنَا} بِالْوَاوِ مَعَ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ مَهْمُوزَةٌ لَا غَيْرُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلِازْدِوَاجِ أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ فِيهِ، وَأَمَّا الْمُوَازَرَةُ فَهُوَ مِنَ الْوَزِيرِ، وَهُوَ الَّذِي يُوَازِرُ الْأَمْرَ أَيْ: يُعَاوِنُهُ أَوْ يَحْمِلُ عَنْهُ وَزْرَهُ وَثِقَلَهُ بِمُسَاعَدَتِهِ لَهُ فِيمَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ مِنَ الرَّأْيِ (قَالَ) أَيِ: الْحُسَيْنُ (فَسَأَلْتُهُ) أَيْ: عَلِيًّا (عَنْ مَجْلِسِهِ) أَيْ: عَنْ أَحْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَقْتِ جُلُوسِهِ (فَقَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقُومُ) أَيْ: مِنْ مَجْلِسِهِ (وَلَا يَجْلِسُ) أَيْ: فِي مَوْضِعِهِ (إِلَّا عَلَى ذِكْرٍ) أَيْ: عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَفِي عَدَمِ ذِكْرِهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَمَالِ ذِكْرِهِ وَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِكِلَا الْفِعْلَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّنَازُعِ (وَإِذَا انْتَهَى) أَيْ: وَصَلَ (إِلَى قَوْمٍ) أَيْ: جَالِسِينَ وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ أَيْ: إِذَا بَلَغَهُمْ يُقَالُ: أَنْهَيْتُ إِلَيْهِ الْخَبَرَ فَانْتَهَى، وَتَنَاهَى أَيْ: بَلَغَ، ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ انْتَهَى حِينَئِذٍ مُطَاوِعٌ فَكَيْفَ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ (جَلَسَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ) أَيِ: بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْجُلُوسِ (الْمَجْلِسُ) وَهُوَ بِكَسْرِ اللَّامِ: مَوْضِعُ الْجُلُوسِ وَبِفَتْحِ اللَّامِ الْمَصْدَرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ هُنَا بِالْكَسْرِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْلِسُ فِي الْمَكَانِ الْخَالِي، أَيَّ مَكَانٍ كَانَ؛ لِأَنَّ شَرَفَ الْمَكَانِ بِالْمَكِينِ أَوْ لَمْ يَكُنْ يَطْلُبُ الصَّدَارَةَ بِنَاءً عَلَى التَّوَاضُعِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ (وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ) أَيِ: الْجُلُوسِ عِنْدَ مُنْتَهَى الْمَجْلِسِ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ مَرْفُوعًا. إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ فَإِنْ وُسِّعَ لَهُ فَلْيَجْلِسْ وَإِلَّا فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَوْسَعِ مَكَانٍ يَرَاهُ فَلْيَجْلِسْ فِيهِ (يُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ) أَيْ: كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مُجَالِسِيهِ (بِنَصِيبِهِ) أَيْ: بِحَظِّهِ، وَالْبَاءُ دَخَلَتْ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي مِنْ بَابِ أَعْطَيْتَ تَأْكِيدًا وَقِيلَ إِنَّهُ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ وَجُوِّزَ أَنَّ الْمَفْعُولَ مُقَدَّرٌ، وَقَوْلُهُ بِنَصِيبِهِ صِفَتُهُ أَيْ: شَيْئًا بِقَدْرِ نَصِيبِهِ وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ؛ لِأَنَّ (كُلَّ) إِذَا أُضِيفَ إِلَى جَمْعٍ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجَمْعِ، وَأَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَالضَّمِيرُ فِي نَصِيبِهِ لَيْسَ لِلْكُلِّ وَلَا لِجُلَسَائِهِ بَلْ لِمَا يُفْهَمُ ضِمْنًا فَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمُ: التَّرْتِيبُ جَعْلُ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَرْتَبَتِهِ وَاحْفَظْهُ فَإِنَّهُ يَنْفَعُكَ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ انْتَهَى، وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى (لَا يَحْسَبُ) بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهِ وَبِهِمَا قُرِئَ فِي السَّبْعَةِ أَيْ: لَا يَظُنُّ (جَلِيسُهُ) أَيْ: مُجَالِسُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِضَافَةُ لِلْجِنْسِ (أَنَّ أَحَدًا) أَيْ: مِنْ أَمْثَالِهِ (أَكْرَمُ عَلَيْهِ) عَلَيْهِ السَّلَامُ (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ نَفْسِهِ (مَنْ جَالَسَهُ) أَيْ: جَلَسَ مَعَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ فَمَنْ جَالَسَهُ بِالْفَاءِ (أَوْ فَاوَضَهُ) أَيْ: رَاجَعَهُ (فِي حَاجَةٍ) و(أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ، وَأَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ فِي تَجْوِيزِهَا لِلشَّكِّ (صَابَرَهُ) أَيْ: غَلَبَهُ فِي الصَّبْرِ ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ لَمْ تَجِئْ لِلْغَلَبَةِ بَلْ مُجَرَّدَةً، نَعَمِ الْمُفَاعَلَةُ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمُغَالَبَةِ فَهِيَ لِلْمُبَالَغَةِ، فَالْمَعْنَى: بَالَغَ فِي الصَّبْرِ مَعَهُ وَعَلَى مَا يَصْدُرُ عَنْهُ حَيْثُ لَا يُبَادِرُ بِالْقِيَامِ وَلَا يَقْطَعُ لَهُ الْكَلَامَ بَلْ يَسْتَمِرُّ مَعَهُ (حَتَّى يَكُونَ هُوَ) أَيِ: الْمُجَالِسُ أَوِ الْمُفَاوِضُ (الْمُنْصَرِفَ) أَيْ: عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا الرَّسُولَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنْهُ وَهَذَا مُسْتَفَادٌ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ مَعَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِجَالِسِهِ، وَأَمَّا فَاوَضَهُ فَالْمُرَادُ بِمُصَابَرَتِهِ فِيهِ أَنَّهُ يَصْبِرُ لِمُفَاوَضَتِهِ حَتَّى يَنْقَضِيَ كَلَامُهُ أَقُولُ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَمَالِ خُلُقِهِ وَحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِ يُصَابِرُهُ أَيْضًا حَتَّى يَنْصَرِفَ لِاحْتِمَالِ عُرُوضِ حَاجَةٍ أُخْرَى لَهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (وَمَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ) بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَسَبَقَ تَخْفِيفُهَا أَيْ: لَمْ يَصْرِفْهُ (إِلَّا بِهَا) أَيْ: بِتِلْكَ الْحَاجَةِ عَيْنِهَا (أَوْ بِمَيْسُورٍ) أَيْ: حَسَنٍ لَا بِمَعْسُورٍ خَشِنٍ (مِنَ الْقَوْلِ) أَيْ: بِالْوَعْدِ أَوْ بِالشَّفَاعَةِ أَوْ بِالرَّهْبَةِ عَنِ الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةِ فِي الْعُقْبَى، وَهَذَا مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} (قَدْ وَسِعَ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ: وَصَلَ (النَّاسَ) أَيْ: أَجْمَعِينَ حَتَّى الْمُنَافِقِينَ لِكَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (بَسْطُهُ) أَيْ: جُودُهُ وَكَرَمُهُ أَوِ انْبِسَاطُهُ (وَخُلُقُهُ) أَيْ: وَحُسْنُ خُلُقِهِ، فَالْمُرَادُ: إِمْدَادَاتُهُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ (فَصَارَ لَهُمْ أَبًا) أَيْ: فِي الشَّفَقَةِ كَمَا قُرِئَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ} (وَصَارُوا) أَيْ: أَصْحَابُهُ أَوْ أُمَّتُهُ (عِنْدَهُ فِي الْحَقِّ سَوَاءً) أَيْ: مُسْتَوِينَ؛ لِأَنَّهُمْ كَالْأَبْنَاءِ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ حَبَّذَا أَرْضُ الْكُوفَةِ سَوَاءً أَيْ: مُسْتَوِيَةً (مَجْلِسُهُ مَجْلِسُ عِلْمٍ) وَفِي نُسْخَةٍ مَجْلِسُ حِلْمٍ (وَحَيَاءٍ وَصَبْرٍ وَأَمَانَةٍ) أَيْ: مِنْهُمْ عَلَى مَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ (لَا تُرْفَعُ فِيهِ) أَيْ: فِي مَجْلِسِهِ (الْأَصْوَاتُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الْآيَةَ (وَلَا تُؤْبَنُ) بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُهُ وَاوًا أَوْ فَتْحُ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الَأَبْنِ، وَهُوَ الْعَيْبُ أَوِ التُّهْمَةُ أَيْ: لَا تُقْذَفُ وَلَا تُعَابُ كَذَا فِي الْفَائِقِ وَقِيلَ أَيْ: لَا تُعْرَفُ وَلَا تُذْكَرُ بِقَبِيحٍ (فِيهِ) أَيْ: فِي مَجْلِسِهِ (الْحُرَمُ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، جَمْعُ الْحُرْمَةِ، وَهُوَ مَا لَا يَحِلُّ انْتِهَاكُهُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَا الْقَبَائِحُ وَرُوِيَ بِضَمَّتَيْنِ، فَالْمُرَادُ بِهِ النِّسَاءُ وَمَا يُحْمَى عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَجْلِسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَانُ مِنْ رَفَثِ الْقَوْلِ وَفُحْشِ الْكَلَامِ وَمَا لَا يَلِيقُ بِمَقَامِ الْكَرِيمِ، يُقَالُ: أَبَنْتُ الرَّجُلَ إِذَا رَمَيْتُهُ بِخَلَّةِ سُوءٍ، وَرَجُلٌ مَأْبُونٌ أَيْ: مَقْذُوفٌ بِهَا، وَفِي الْمُنْتَقَى: لَا تُوصَفُ بِشَرٍّ وَالْحُرَمُ النِّسَاءُ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِي الْقَامُوسِ أَبَنَهُ بِشَيْءٍ يَأْبُنُهُ وَيَأْبِنُهُ اتَّهَمَهُ فَهُوَ مَأْبُونٌ بِخَيْرٍ أَوْ بِشَرٍّ فَإِنْ أَطْلَقْتَ فَقُلْتَ مَأْبُونٌ فَهُوَ لِلشَّرِّ وَآبَنَهُ عَابَهُ فِي وَجْهِهِ (وَلَا تُنْثَى) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ نُونٍ وَفَتْحِ مُثَلَّثَةٍ أَيْ: لَا تُشَاعُ وَلَا تُذَاعُ (فَلَتَاتُهُ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللَّامِ أَيْ: ذَلَّاتُهُ وَمَعَائِبُهُ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ وُقُوعِهَا جَمْعُ فَلْتَةٍ، وَهِيَ مَا يَبْدُرُ مِنَ الرَّجُلِ مِنْ سَقْطَةٍ، وَفِي الْفَائِقِ الْفَلْتَةُ الْهَفْوَةُ أَيِ: الْقَوْلُ عَلَى غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَالضَّمِيرُ فِي فَلَتَاتِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْمَجْلِسِ الَّذِي تَقَدَّمَ السُّؤَالُ عَنْهُ أَيْ: إِنْ سَقَطَ عَنْ أَحَدِ جُلَسَائِهِ سَقْطَةٌ سُتِرَتْ عَلَيْهِ فَلَمْ يُحْكَ عَنْهُ كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُنْتَقَى، وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْفَلَتَاتِ الزَّلَّاتُ جَمْعُ فَلْتَةٍ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ فِي مَجْلِسِهِ زَلَّاتٌ فَتُحْفَظُ فَتُحْكَى انْتَهَى، فَالنَّفْيُ تَوَجَّهَ إِلَى الْقَيْدِ وَالْمُقَيَّدِ جَمِيعًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} وَكَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} فَكَأَنَّ الْحَنَفِيَّ مَا بَلَغَهُ هَذِهِ الْفَائِدَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْقَاعِدَةِ، وَلِذَا قَالَ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ: هَذَا حَسَنٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُحَافِظْ فِيهِ الْقَاعِدَةَ الْقَائِلَةَ بِأَنَّ النَّفْيَ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْقَيْدِ ثُمَّ رَأَيْتُ شَارِحًا قَالَ نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَجْلِسِهِ فَلَتَاتٌ فَتُنْثَى فَالنَّفْيُ وَاقِعٌ عَلَى الْفَلَتَاتِ لَا عَلَى الذِّكْرِ وَإِذَا انْتَفَى الْمَوْصُوفُ انْتَفَتِ الصِّفَةُ كَذَا فِي الْعَجِيبِ، وَفِي الْقَامُوسِ نَثَا الْحَدِيثَ حَدَّثَ بِهِ وَأَشَاعَهُ وَالنِّثَاءُ مَا أَخْبَرْتَ بِهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ حُسْنٍ أَوْ سُوءٍ وَنَثَيْتُ الْخَبَرَ نَثَوْتُهُ انْتَهَى، فَهِيَ وَاوِيَّةٌ أَوْ يَائِيَّةٌ، وَفِي النِّهَايَةِ نَثَوْتُ الْحَدِيثَ أَظْهَرْتُهُ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ قَوْلِهِ نَثَا يَنْثُو إِذَا تَكَلَّمَ بِقَبِيحٍ فَلَمْ أَرَ لِنَقْلِهِ مُسَاعِدًا صَرِيحًا (مُتَعَادِلِينَ) أَيْ: مُتَوَافِقِينَ كَأَنَّهُ خَبَرٌ لِكَانَ الْمُقَدَّرِ أَيْ: كَانُوا مُتَعَادِلِينَ فِيهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَالْمَعْنَى: حَالَ كَوْنِ أَهْلِ مَجْلِسِهِ مُتَعَادِلِينَ أَيْ: مُتَسَاوِينَ لَا يَتَكَبَّرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْحَسَبِ وَالنَّسَبِ بَلْ كَانُوا كَمَا قَالَ (يَتَفَاضَلُونَ) أَيْ: يَفْضُلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ (فِيهِ) أَيْ: فِي مَجْلِسِهِ (بِالتَّقْوَى) أَيْ: وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عِلْمًا وَعَمَلًا، وَفِي نُسْخَةٍ: يَتَعَاطَفُونَ بَدَلَ يَتَفَاضَلُونَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى وَمُلَائِمٌ لِقَوْلِهِ (مُتَوَاضِعِينَ) وَهُوَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ الْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ خَبَرٌ لِكَانُوا مُقَدَّرًا (يُوَقِّرُونَ فِيهِ الْكَبِيرَ) أَيْ: عُمْرًا أَوْ قَدْرًا (وَيَرْحَمُونَ فِيهِ الصَّغِيرَ) بِنَاءً عَلَى مَا وَرَدَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا كَمَا رَوَاهُ المص عَنْ أَنَسٍ فِي جَامِعِهِ (وَيُؤْثِرُونَ) مِنَ الْإِيثَارِ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ، وَهُوَ مَهْمُوزٌ، وَيَجُوزُ إِبْدَالُهُ أَيْ: يَخْتَارُونَ (ذَا الْحَاجَةِ) أَيْ: عَلَى مَنْ لَيْسَ بِذِي حَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ (وَيَحْفَظُونَ الْغَرِيبَ) أَيْ: يُرَاعُونَهُ وَيُكْرِمُونَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ مُوَاسَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْغَرِيبِ أَوْ يَعْتَنُونَ بِحِفْظِ الْغَرِيبِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْمَذْكُورَةِ فِي مَجْلِسِهِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ يَزِيعَ) بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَكَسْرِ زَاءٍ فَتَحْتِيَّةٍ فَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ (حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بِتَشْدِيدِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ (حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أُهْدِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: لَوْ أُرْسِلَ هَدِيَّةٌ (إِلَيَّ كُرَاعٌ) بِضَمِّ الْكَافِ، وَهُوَ مَا دُونَ الرُّكْبَةِ مِنَ السَّاقِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَمَا دُونَ الْكَعْبِ مِنَ الدَّوَابِّ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ (لَقَبِلْتُ) أَيْ: نَظَرًا إِلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ وَتَوَاضُعًا فِي مَخْلُوقِ اللَّهِ بِنَاءً لِمَحَبَّتِهِ وَتَخَلُّقًا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} فَمِنَ الْخُلُقِ الْجَمِيلِ قَبُولُ الْقَلِيلِ وَجَزَاءُ الْجَزِيلِ (وَلَوْ دُعِيتُ عَلَيْهِ) أَيْ: إِلَيْهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (لَأَجَبْتُ) أَيِ: الدَّاعِيَ، وَلَمْ أَتَكَبَّرْ لَا عَلَى دَاعٍ وَلَوْ كَانَ حَقِيرًا وَلَا عَلَى مَدْعُوٍّ إِلَيْهِ وَلَوْ كَانَ صَغِيرًا، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْحَدِيثَ بِهَذَا اللَّفْظِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ مِيرَكُ: وَرُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ. قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعُرْيَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ، وَيَنَامُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَقُولُ: لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ جُمْلَةَ (لَوْ دُعِيتُ) إِلَى آخِرِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: زَعَمَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُرَاعِ الْمَكَانُ الْمَعْرُوفُ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ يُطْلَقُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِجَابَةِ وَلَوْ بَعُدَ الْمَكَانُ لَكِنَّ الْإِجَابَةَ مَعَ حَقَارَةِ الشَّيْءِ أَوْضَحُ فِي الْمُرَادِ، وَلِهَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُرَاعِ هُنَا كَرَاعُ الشَّاةِ قَالَ: وَحَدِيثُ أَنَسٍ الْمَذْكُورُ فِي الشَّمَائِلِ وَيُؤَيِّدُهُ، قَالَ مِيرَكُ: قَدِ اخْتَلَفَ الرِّوَايَةُ عَنِ أَنَسٍ كَمَا تَرَى فَفِي التَّأْيِيدِ تَأَمُّلٌ، أَقُولُ تَأَمُّلٌ فَإِنَّ وَجْهَ التَّأْيِيدِ بِمَا فِي الشَّمَائِلِ ظَاهِرٌ غَايَةَ الظُّهُورِ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: (لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ) فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كُرَاعُ الْغَنَمِ لَا كُرَاعُ الْغَمِيمِ ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ دُعِيتُ عَلَيْهِ أَوْ إِلَيْهِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ كُرَاعِ الْغَنَمِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَكُونُ نَصًّا فِي الْمَقْصُودِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) تَابِعِيٌّ جَلِيلُ الْقَدْرِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ (عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: لِعِيَادَتِي (لَيْسَ بِرَاكِبِ بَغْلٍ وَلَا بِرْذَوْنٍ) بِكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ رَاءٍ وَفَتْحِ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ، وَهُوَ الْفَرَسُ الْأَعْجَمِيُّ، وَهُوَ أَصْبَرُ مِنَ الْعَرَبِيِّ، وَمَجِيئُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُونِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى تَوَاضُعِهِ وَإِرَادَةِ كَمَالِ أَجْرِهِ هَذَا. وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ: الْبِرْذَوْنُ الدَّابَّةُ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: الْبِرْذَوْنُ التُّرْكِيُّ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْجَمْعُ: الْبَرَاذِينُ وَخِلَافُهَا الْعِرَابُ، وَالْأُنْثَى بِرْذَوْنَةٌ، قَالَ مِيرَكُ: وَلَعَلَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الرُّكُوبَ عَلَى الْبَغْلِ وَالْبِرْذَوْنِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، فَالْمَعْنَى مَا جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِرَاكِبِ دَابَّةٍ أَصْلًا، وَعَلَى الثَّانِي فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَاءَ رَاكِبًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِرَاكِبِ بَغْلٍ وَلَا فَرَسٍ، أَقُولُ الصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مَاشِيًا طَالِبًا لِمَزِيدِ الثَّوَابِ وَتَوَاضُعًا لِرَبِّ الْأَرْبَابِ وَتَجَنُّبًا لِلْخَلُوبِ مِنَ الْأَصْحَابِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سُفْيَانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: مَرِضْتُ مَرَضًا فَأَتَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ فَوَجَدَانِي غُمِيَ عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ قَالَ: فَأَفَقْتُ الْحَدِيثَ قَالَ مِيرَكُ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ لِعِيَادَتِهِ مَاشِيًا، وَفِيهَا إِبْطَالُ مَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْمُتَحَدِّثِينَ مِنْ أَنَّهُ رَاكِبٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِرَاكِبِ بَغْلٍ وَلَا بِرْذَوْنٍ بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ، وَغَفَلَ عَنْ أَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ وَأَنَّ خُصُوصِيَّةَ الْبَغْلِ وَالْبِرْذَوْنِ لَيْسَ بِمُرَادٍ انْتَهَى، وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ رُكُوبَ غَيْرِهِمَا لَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ جَاءَ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَوْ نَاقَةٍ مَثَلًا. (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ) بِالتَّصْغِيرِ (أَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ: حَدَّثَنَا (يَحْيَى بْنُ أَبِي الْهَيْثَمِ الْعَطَّارُ قَالَ: سَمِعْتُ يُوسُفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ) بِفَتْحِ سِينٍ وَتَخْفِيفِ لَامٍ فِي الْقَرِيبِ، يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ الْإِسْرَائِيلِيُّ الْمَدَنِيُّ أَبُو يَعْقُوبَ، صَحَابِيٌّ صَغِيرٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْعِجْلِيُّ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ، قَالَ مِيرَكُ شَاهْ: وَاخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهِ فَأَثْبَتَهَا الْبُخَارِيُّ وَنَفَاهَا أَبُو حَاتِمٍ (قَالَ) أَيْ: يُوسُفُ (سَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوسُفَ وَأَقْعَدَنِي فِي حِجْرِهِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ فَفِي الْمُغْرِبِ: حِجْرُ الْإِنْسَانِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ حِضْنُهُ، وَهُوَ مَا دُونَ الْإِبِطِ إِلَى الْكَشْحِ، وَفِي الْقَامُوسِ نَشَأَ فِي حِجْرِهِ، وَحِجْرُهُ أَيْ: حِفْظُهُ وَسِتْرُهُ، وَفِي النِّهَايَةِ الْحَجْرُ بِالْفَتْحِ الْمَنْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ وَالْيَتِيمَةُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حِجْرِ الثَّوْبِ، وَهُوَ طَرَفُهُ الْمُقَدَّمُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُرَبِّي وَلَدَهُ فِي حِجْرِهِ، وَالْحَجْرُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ الثَّوْبُ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي نَقْلِهِ أَنَّ الْحِجْرَ بِالْكَسْرِ مَا بَيْنَ يَدَيْكَ مِنْ بَدَنِكَ وَبِالْفَتْحِ فَرْجُ الْمَرْأَةِ وَحَكَى أَنَّهُ بِهِمَا الْحِضْنُ (. وَمَسَحَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَلَى رَأْسِي) أَيْ: يَدُهُ لِشُمُولِ الْبَرَكَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ بِزِيَادَةِ (وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ) وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ تَوَاضُعِهِ وَحُسْنِ خُلُقِهِ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (الرَّبِيعُ، وَهُوَ ابْنُ صُبَيْحٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ عَلَى رَحْلٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: قَتَبٍ (رَثٍّ) بِفَتْحِ رَاءٍ وَتَشْدِيدِ مُثَلَّثَةٍ أَيْ: خَلِقٍ عَتِيقٍ (وَقَطِيفَةٍ) أَيْ: وَعَلَى قَطِيفَةٍ فَيُفِيدُ أَنَّهَا كَانَتْ فَوْقَ الرَّحْلِ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِبٌ فَوْقَهَا لَا أَنَّهُ لَابِسٌ لَهَا عَلَى مَا سَبَقَ تَحْقِيقُهَا (كُنَّا نَرَى) بِضَمِّ نُونٍ وَفَتْحِ رَاءٍ أَيْ: نَظُنُّ (ثَمَنَهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ) ذَكَرَهُ مِيرَكُ شَاهْ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: نَرَى مَجْهُولًا مَعْنَاهُ نَظُنُّ وَمَعْلُومًا مَعْنَاهُ نَعْلَمُ وَنَعْتَقِدُ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ بِمَعْنَى الْإِبْصَارِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، قَالَ: وَالْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ثَمَنَهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، وَهَذَا لَا يُلَائِمُ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ وَعَلَيْهِ قَطِيفَةٌ لَا تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَلَوْ كَانَتِ الْقِصَّةُ مُتَعَدِّدَةً لَا إِشْكَالَ، أَقُولُ الْقَضِيَّةُ مُتَّحِدَةٌ وَالرِّوَايَةُ غَيْرُ مُتَعَدِّدَةٍ فَإِثْبَاتُ الْمُسَاوَاةِ عَلَى التَّنَزُّلِ وَالْمُسَامَحَةِ وَنَفْيُهَا عَلَى الْمُضَايَقَةِ وَالْمُمَاسَكَةِ (فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ: رَفَعَتْهُ مُسْتَوِيًا عَلَى ظَهْرِهَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ بِهِ حَالٌ أَيِ اسْتَوَتْ رَاحِلَتُهُ مُلْتَبِسَةً بِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ ثُمَّ الرَّاحِلَةُ مِنَ الْبَعِيرِ الْقَوِيِّ عَلَى الْأَسْفَارِ وَالْأَحْمَالِ، وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ، وَالْهَاءُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقَدْ وَرَدَ (النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً). وَالْفَاءُ فِي فَلَمَّا لِلتَّفْصِيلِ وَجَوَابُهُ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَبَّيْكَ) أَيْ: إِقَامَةً عَلَى إِجَابَتِكَ بَعْدَ إِقَامَةٍ مِنْ أَلَبَ بِالْمَكَانِ إِذَا قَامَ وَالْأَصْلُ أَلْبَبْتُ عَلَى خِدْمَتِكَ إِلْبَابًا بَعْدَ إِلْبَابٍ (بِحَجَّةٍ لَا سُمْعَةَ فِيهَا وَلَا رِئَاءَ) بِالْهَمْزَةِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ، وَأَمَّا مَا ضَبَطَهُ فِي الْأَصْلِ بِالْيَاءِ فَلَا وَجْهَ لَهُ إِذْ صَرَّحَ فِي الْمُغْرِبِ بِأَنَّ الْيَاءَ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ غَيْرَ صَوَابٍ إِذْ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنَ الْعَشَرَةِ بِالْيَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) وَهُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ (وَعَاصِمٌ الْأَحْوَلُ) بِالْوَصْفِ بِمَا هُوَ الْمَشْهُورُ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قِيلَ هَذَا الْخَيَّاطُ مِنْ مَوَالِيهِ، وَقَدْ مَرَّ حَدِيثُهُ لَكِنَّهُ ذُكِرَ هُنَا؛ لِأَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى مَزِيدِ تَوَاضُعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَرَّبَ لَهُ) أَيْ: لِأَجْلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ إِلَيْهِ أَيْ: إِلَى جَانِبِهِ (ثَرِيدًا) أَيْ: خُبْزًا مَثْرُودًا بِلَحْمٍ أَوْ بِمَرَقَةٍ (عَلَيْهِ دُبَّاءٌ فَكَانَ) أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ بَدَلَ الْفَاءِ (يَأْخُذُ الدُّبَّاءَ وَكَانَ يُحِبُّ الدُّبَّاءَ قَالَ ثَابِتٌ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: فَمَا صُنِعَ لِي طَعَامٌ أَقْدِرُ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَمَا نَافِيَةٌ أَيْ: مَا طُبِخَ لِي طَعَامٌ مِنْ صِفَتِهِ أَنِّي أَسْتَطِيعُ (عَلَى أَنْ يُصْنَعَ فِيهِ دُبَّاءٌ إِلَّا صُنِعَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِيهِمَا. (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) أَيِ: الْبُخَارِيُّ (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (قَالَتْ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَاذَا كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ: كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ) أَيْ: فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِهِ يَعْمَلُ عَمَلَ أَمْثَالِهِ (يَفْلِي) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَكَسْرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّفْلِيَةِ فَفِي الْقَامُوسِ: فَلَّى رَأْسَهُ بَحَثَهُ عَنِ الْقَمْلِ كَفَلَاهُ أَيْ: يُفَتِّشُ (ثَوْبَهُ) وَيُقَلِّبُهُ وَيَلْتَقِطُ الْقَمْلَ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا قَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْقَمْلُ يُؤْذِيهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَر فِي قَوْلِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ التَّفْلِيَةَ مِنْ وَسَخٍ وَنَحْوِهِ (وَيَحْلُبُ شَاتَهُ) بِضَمِّ اللَّامِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا (وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ) بِضَمِّ الدَّالِ وَيُكْسَرُ فَهَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَفُسِّرَ بِصَبِّ الْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهَا أَيْضًا: (كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ). وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَيَرْفَعُ دَلْوَهُ، وَقَالَ شَارِحُ قَوْلِهَا- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا رَأَتْ مِنِ اعْتِقَادِ الْكُفَّارِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُ غَيْرُهُ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ وَجَعَلُوهُ كَالْمُلُوكِ فَإِنَّهُمْ يَتَرَفَّعُونَ عَنِ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ الدَّنِيَّةِ تَكَبُّرًا كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} فَقَالَتْ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ خَلْقًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَاحِدًا مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ شَرَّفَهُ اللَّهُ بِالنُّبُوَّةِ وَكَرَّمَهُ بِالرِّسَالَةِ وَكَانَ يَعِيشُ مَعَ الْخَلْقِ بِالْحَقِّ وَمَعَ الْحَقِّ بِالصِّدْقِ؛ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلُوا وَيُعِينُهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ تَوَاضُعًا وَإِرْشَادًا لَهُمْ إِلَى التَّوَاضُعِ، وَرَفَعَ التَّرَفُّعَ، وَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْخَلْقِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.
|